Wednesday, May 28, 2008

تأملات روحانية مع سيفى سيفى

ونتابع ناقة النبى صالح

أما ما جاء في سورة هود بخصوص ناقة صالح(ع):
* [وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ](61 هود).
تعود هذه الآية الكريمة، لتؤكد ما جئنا عليه، فصالح(ع) يذكّر قومه بالأيام الخوالي، وكيف رفعهم الله من مستوى دان رخيص بعد أيمانهم بدينهم السابق، الى أمة ذات حضارة وقوة ورجال، وكيف سيطروا على بقية الأمم المختلفة واستعمروا أراضيهم وانتصروا عليهم وعلى كل من وقف في سبيل نشر ديانتهم، وكيف جمعوا الناس على عبادة الله الواحد؛ فالنبي صالح ينصح قومه ويطلب منهم استغفار الله ـ باعتبارهم مؤمنين موحدين قائمين على عبادة الله بالفعل ـ وينصحهم بالتوبة والعودة الى الدين الحق. ومما يؤكد هذا المعنى، أي أن قوم ثمود كانوا من الموحدين، قوله تعالى في إشارته الى أن جميع البشر دون استثناء، أنهم يعبدونه ولا يعبدون رباً سواه (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(42 العنكبوت)، وكذلك تأكيده أنه ما ترك أمة من الأمم إلا وبعث فيها نبيّاً نذيراً (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ)(24 فاطر)، وأن ما من رسول إلا وحقق هدفه وآمن الناس بدعوته (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)(64 النساء).
أما لـو كان قوم ثمود كافرين بالله أو ملحدين غير مؤمنين، ولم يسبق لهم الايمان بدين سماوي، فلا يمكن أن يطالبهم النبي صالح(ع) باستغفار الله والتـوبة اليه وهم لا يعرفونه ولا يؤمنون به. فنصيحته لهم بالتوبة دليل على أنهـم كانوا قوماً موحدين، ثم ابتعدوا عن صراط الله الحق المستقيم بالتدريج. وإلا فلا يجوز أن يطالبهم بالعودة والرجوع الى الله ولم يسبق لهم عبادته.
أما الاشارة في أن الله قريب مجيب لدعوة الداعي إذا دعاه، فتشير الى أن رحمة الله موجودة بالفعل وعلى الدوام ولم تنقطع لحظة واحدة عن البشر، كما قال تعالى
(هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا)(1 الإنسان)
، والنبي صالح(ع) يحاول أن يفهمهم أن رحمة الله قد نزلت عليهم بالفعل، وهي الآن على شكل شريعة سماوية، وهي قريبة جدا منهم وبينهم، وان الله استجاب لدعائهم وتوسلهم واستغفارهم وأنزل عليهم رحمته اليوم، وهي ظهوره بينهـم ونزول شريعته اليهم، ليكشف عنهم ما أصابهم من كرب وما نزل بهم من غمة وما انتشر بينهم من فساد وكفر، لأنهم كانوا ما يزالون ساعتها آخر جيل من مؤمني الأمة السابقة صاحبة الكتاب، وهو يحاول أن يفهمهم أنهم وبمجرد اتخاذهم قرارهم النهائي، فرادى أو جماعات، بالصدّ عن شـريعته، وبمجرد أن يعلن لهم إتمام حجته عليهم، كما أعلن سيد المرسلين بهذا الإعلان من بعد في قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا)(3 المائدة)، فستدخل أمة ثمود في زمرة الكافـرين عند الله، ومنذ تلك اللحظة وتلك الساعة ستحجب عنهم رحمة الله ولا يستجاب لدعائهم، كما قال تعالى (قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ)(50 غافر
هـذا إضافة الى أن الآية الكريمة مورد البحث توضح أن هناك علاقة قوية بين ظهور أديان الله والأيمان بها من جهة، وبين ظهور الحضارات الانسانية على الأرض من جهة أخرى، وسنأتي على الموضوع لاحقاً وبايجاز.
* [قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ](62 هود).
تشـير الآية الكريمة الى أن النبي صالح(ع) كان معروفا بين قومه بالأخلاق الحسنة والصفات الطيبة والمزايا الحميدة، شأنه شأن أخلاق وصفات جميع الرسل والأنبياء الكرام، لكن قومه وحالما أعلن دعوته الغريبة الجديدة غير المتوقعة بينهم، راحوا يستنكرون عليه هذا التغيير المفاجئ في أقواله وتصرفاته ومطالبتهم بعبادة الله سبحانه وتعالى، لأنهم كانوا بالفعل على دين سماوي ويتبعون شريعة ربانية ولهم رسول وكتاب منزل، بدليل قوله تعالى (أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا). لذلك جاء اعتراضهم عليه، لأنهم لم ينتبهوا الى مقصده الحقيقي في ترك ما توارثوه عن آبائهم من تمجيد وتبجيل لدينهم وأحكـامه والانتقال الى دينه الجديد. فكان ردهم على دعـوته الاستنكار والاعتراض والتكذيب، مع أنه كان يدعوهم الى شريعة جديـدة أهدى من شـريعتهم تزيد من أيمانهم وتكمله، كما قال تعالى (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)(24 الزخرف)، ويطالبهـم بالهجرة مرة ثانية الى الله، كما قال تعالى (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(26 العنكبوت).
* [قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ](63 هود).
يعود النبي صالح(ع) ليوضح لقومه أنه قد اختير بأمر من الله لاعلان دعوته، ويطالبهم بفحصها وتدقيق آثارها والتبيّن من صحة آياتها، ويذكّرهم أنه لا خيار ولا قدرة للرسل والأنبياء المختارين أمام أمر الله، كما قال تعالى
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ) (94 الحجر)، لأن هذا هو طريق الفلاح والنجاح، وما غير ذلك إلا الخسران المبين.
* [وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ](64 هود).
لاحظنا أن موضوع النقاش بين النبي صالح(ع) وقومه يرتكز على إعلانه دعوة سماوية جديدة، وحثه النـاس على الايمان بالله الواحد الأحد من جديد؛ من هذا يبدو أنه يصف شريعته بالناقـة، لما سبق وسقناه من أوجه التشابه فيما بين استخداماتها واستعمالاتها. لكن شتّان ما بين ظهور رسول جديد وإعلانه أمرا خطيرا كهـذا، وبين طلبه إخلاء سبيل ناقة وتركها ترعى وتأكل من حيث تشاء، فلا علاقة روحية أو دينية واضحة بين الأمرين. أما ما يلفت الانتباه في الآية الكريمة، فهو وصفها بـ
(نَاقَةُ اللَّهِ)، والمقصود بالناقة هنا هي شريعة الله التي ستنقلهم من جنة دينهم القديم الى جنة دينه الجديد، أو التي ستخلصهم من أرض دين جفَّ ماء أيمانه وانقطعت ثمار أشجار أعماله الصالحة الى أرض دين طيبة مليئة بفواكه الآيات الجديدة وثمار الحكمة والمعرفـة الطازجة. وطالما ضربت آيات القرآن الكريم الأمثال لتقريب مثل هـذه المفاهيم لأذهان العقلاء والحكماء من الناس، كما قال تعالى (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ)(43 العنكبوت). فصالح(ع) يعود لينبه قومه أن رسالته سماوية من عند الله وفيها من الحجج والبراهين والدلائل ما يثبت ذلك، ويطالبهم بعدم الاعتراض عليها او محاربتها وعقرها، وتركها تسري في أراضي قلوب الناس لترتع في حقول عقول كل من يود الاستجابة لهـا، لأنه من المؤكد أن من سيعترض عليها ويحاربها، سـيقع تحت طائلة عذاب الله وقهره. وهذا يثبت لنا أن رحمة الله سبحانه وتعالى تتكرر على عباده كلما تبدلت أحوال الناس وتطورت مجتمعاتهم، ولا تنزل عليهم إلا على شكل شرائع سماوية.
* [فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ] (65 هود).
من المهم جدا أن نبحث عن معنى (اليوم) في كتاب الله، فإذا قرأنا قوله تعالى (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)(5 السجدة)، نفهم أنه يشبه عمر شرائعه باليوم الواحد، فمثلما لليوم الزماني بداية ونهاية، ونهار وليل، ونور وظلمة. كذلك هو الحال بالنسبة لعمر الشريعة، إذ لها بداية ونهاية، ولها زمن نور وقوة وانتشار، وزمن ظلام وضعف وانحسار.
إذن، فالآية الكريمة تريد أن تقول: ان قوم ثمود رفضوا الاستجابة لرجاء النبي صالح بالأيمان، ولم يقتنعوا بدلائله، وقاموا عليه وعلى أتباعه بالصد والنكران والمعارضة، لذلك جاء تحذيره وتنبؤه لهم بابتداء موعد زوال آثارهم وانحسار قوة حضارتهم منذ تلك اللحظة، وأكد لهم أن هذا وعد إلهي لا رجوع فيه، فقد انتهت مدة تنبيههم ومسامحتهم، وبهذا سيستمرون على اسم دينهم لمدة ثلاث أيام شرائع تالية، ثم يختفي اسمهم واسم شريعتهم ويمحى من الأرض الى الأبد.
* [فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ](66 هود).
ومنذ تلك الساعة، ووقتما انتهت مهلتهم للتحقق من صحة أمر الله في دين النبي صالح، بدأت حضارة قوم ثمود ومجدهم وقوتهم بالانحلال والزوال واعتبروا عند الله قوم سوء أخسرين، حتى اختفى اسمهم ورسمهم من بين البشر. لأن الله غني عن عبادة خلقه، وأمره أقوى من أن يوقفه اعتراض الجاهلين. بينما راحت شريعة صالح(ع) الجديدة تنمو وتنتشر في قلوب الناس، ففاز برحمة الله وبركاته كل من آمن بها ونجى من عار الكفر وخزي التعصب.
* [وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ](67 هود).
وبهذا اختفى قوم ثمود وبادت حضارتهم بالتدريج والى الأبد، بسبب ارتفاع صوت الحق وصيحته، ونفخ النبي صالح(ع) في صور الأيمان وبوق الدين الجديد الذي كان إعلاناً عاما لبدء موت من كفر بها روحانياً، وحياة من تقدم للايمان بدعوتها روحياً.
ونعود لنقول أن حضارات البشر ترتبط ارتباطا وثيقا بظهور الديانات السماوية وانتهائها، فكل أمة تنتبه لخطورة وأهمية الايمان بالشرائع السماوية وتتقدم لتصديق رسل الله وتذعن لأمرهم، يبقى اسمها ويستمر ذكرها ويعلو شأنها وتحل عليها البركات والنعم ويرزقها الله من حيث لا تحتسب، حتى ولو تغير اسم دينها واسم رسولها وتبنت شريعة سماوية جديدة، فستبقى في حالة علو وسمو مستقطبة ما حولها من الأمم ليذوبوا في أمتها ويندمجوا في حضارتها. أما إذا ظهر منها وفيها جيل يغفل عن هذه الحقيقة ويستنكر ويجهل تأثير قوتها ، عندها تبدأ عوامل الاندثار والانحلال تنخر في هيكـل بناء مجتمعاتها فتنتشر فيها عقائد الأوهام والأباطيل، فيختفي أثر حضارتها تدريجيا والى الأبد.
ومن المؤسف أن نرى غالبية الأمم القديمة من أصحاب الكتاب قد غفلت عن هذه الحقيقة الفريدة، عندما رفضوا التجديد وابتعدوا عن التطوير وتشبثوا بقديم أديانهم وغالوا في محبة رسلهم وصدّوا وبعدوا عن كل من ظهر بعدهم، وتمسكوا برجال دينهم، لدرجة أنهم جزموا بانقطاع رحمة الله عن العباد، وكأنهم يظنون أن بأيمانهم بمن ظهر عليهم من جديد الرسل، سيدخلون نار غضب الله بدلا من جنة رحمته، وهذا ما
حذر سبحانه وتعالى منه مراراً في كتابه العزيز.
لكن هذا الانحدار والاختفاء للحضارات، يستغرق وقتا أطول مما يستغرقه وقت علوّها وسموّها، لذلك يصعب على العلماء والمهتمين بالحضارات الانسانية والباحثين عن حقائق ظهورها وزوالها، ملاحظة هذه الأسباب واكتشاف حقيقة ما حدث لتلك الأمم الغابرة بشكل واضح، خاصة وهم يستعملون أدلة مادية في بحوثهم للعثور على آثار روحانية معنوية، فشتان بين السبيلين، وبعدما تغيرت لغاتها وتبدلت أقوامها ولم يتبق من آثارها إلا بقايا مهلهلة وإشارات ضعيفة لا تعطي صورة واضحة لما جرى لها أو تكشف عن أسبابها بشكل صريح، علاوة على وجود تأثيرات الزمان وعوامل التعرية الطبيعية ومرور آلاف السنين. فكم من أمم في مختلف أصقاع الأرض لم يكلمنا القرآن الكريم عنهم وعن أحوال حضاراتهم وشؤونها، كما قال تعالى
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُـوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(9 الروم)، وكم من دين ورسول أو نبيّ لم يأت على ذكرهم أو ذكر أتباعهم، كما قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ)(78 غافر)، وما سبب ذلك إلا لأن القرآن الكريم كتاب سماوي روحاني يشجّع الناس على الأيمان والهدى، وليس كتاب تاريخ شعوب أو جغرافية أقاليم، فهدفه الأول والأخير هو هداية الناس وتحذيرهم من مغبة الكفر التي وقعت فيها جميع أمم القبل، كما قال تعالى (وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)(102 الأعراف). إلا أن القرآن الكريم لم يترك ذكر تلك الأمم تماما، بل بقي يشير اليها والى رسلها بشكل عام وبإشارات دقيقة لتشابه أسباب اختفائها، وبرموز وإشارات لطيفة، خاصة من سكن منهم أرضاً قريبة من أرض العرب، كما في إشارته الى أمة المجوس في ايران وتعيينه مكان ظهور رسولهم زرادشت قرب نهر آراس شمال غربها (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا)(38 الفرقان)، وكذلك قوله الكريم (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ)(12 ق). وما الغاية الأخرى من هذا الاسلوب الإعجازي وإشاراته اللطيفة الدقيقة، إلا لإخفاء جوهرة الامتحان الحقيقية والتركيز على نقطة الغفلة التي مر بها أتباع جميع الديانات السماوية القديمة والتحذير منها. وبهذا القانون السماوي يمكن الاستنتاج أن غالبية تلك الأمم القديمة، إما كفروا بأول رسول ظهر عليهم، أو أنهم كفروا بالرسول الذي تلاه، ولم يسبق لأمة من تلك الأمم أن استمرت على تصديق سلسلة رسل الله واحدا تلو الآخر دون انقطاع، وهذا هو سرّ خطأ الانسان الأزلي، وهذا ما يفسر قوله الكريم (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(106 يوسف).
* [كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ]
(68 هود).
لاحظنا أن قوم ثمود كانوا يدينون بدين سماوي قبل ظهور النبي صالح عليهم، وأنهم كانوا من الموحدين لله سبحانه وتعالى، وما مشكلتهم في زمن ظهور النبي صالح(ع)، إلا أنهم رفضوا تجديد دينهم كما أمرهم الله؛ من هنا نستغرب لقوله الكريم (كَفَرُوا رَبَّهُمْ)! فكيف يكونوا كفروا ربهم، وهم موحدون ويتبعون شريعة سماوية قديمة؟
فـإذا تذكّرنا قولـه الكريـم في سورة يوسف (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ)(41)، ندرك ان الله سبحانه وتعالى يستعمل كلمة (رب) حسب استعمالهـا القديـم بين الأمم السابقة، فلقد كان قدماء البشر يطلقونها على أنبيائهم وملوكهم وأمرائهم ورؤسائهم وكبار قومهم وسادتهم.. الخ. إذ ليس من المعقول ان يسقي هذا السجين ربه بالمعنى المقدس، خمراً.
من هذا نفهم أنه سبحانه وتعالى يطلق هذه الكلمة على النبي صالح(ع)، فهو سفيره ورسوله وسيّد قوم ثمود وملك ملوكهم وسبب أيمانهم، وبظهوره فصل بين المؤمنين والكافرين وحكم بينهم، فدخل كل من آمن بدعوته الى جنان الله وخلده، وسيق الكافرون الى نيران جهنم وبئس المصير.
وباختفاء آثار دين وحضارة قوم ثمود جرّاء كفرهم وتكذيبهم لرسالة نبيّهم صالح(ع)، اختفى ذكرهم من الأرض وكأنهم لم يكونوا من أصحاب الكتاب، ولم تكن لهم قبل ذلك حضارة عظيمة. وبذلك لم يؤثر اختفائهم في استمرار رسالات الله وتجدد شرائعه، ولم يحزن عليهم أحد، لا سماء دينهم ولا سماء شريعتهم ولا أراضي الأيمان الطويلة الممتدة، كما قال تعالى
(فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ)(29 الدخان).

No comments:

Powered By Blogger