Friday, December 26, 2008

المراد من الخبز والخمر

المراد من الخبز والخمر

السّؤال: يقول حضرة المَسيح "إنّي أنا الخبز الذّي نزل من السّماء إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد"
[i] فما المقصود من هذا البيان؟
8- إنجيل يوحنّا، الأصحاح السّادس الآية 51.

الجواب: المقصود من هذا الخبز هو المائدة السّماويّة والكمالات الإلهيّة يعني أنّ كلّ من يتناول من هذه المائدة أي يكتسب من الفيوضات الإلهيّة ويقتبس من الأنوار الرّحمانيّة ويأخذ نصيباً من كمالاتي يحيا حياةً أبديّة.
والمقصود من الدّم أيضاً هو روح الحياة وتلك هي الكمالات الإلهيّة والجلوة الرّبانيّة والفيض الصّمدانيّ، لأنّ جميع أجزاء بدن الإنسان بواسطة جريان دورته تكتسب المادّة الحيويّة من الدّم، يقول في آية 26 من الأصحاح 6 من إنجيل يوحنّا "أقول لكم أنتم تطلبونني ليس لأنّكم رأيتم آيات بل لأنّكم أكلتم من الخبز فشبعتم" ومن الواضح أنّ الخبز الذّي أكله الحواريّون فشبعوا منه هو الفيوضات السّماويّة لأنّه يقول في آية 33 من الفصل المذكور "لأنّ خبز اللّه هو النّازل من السّماء الواهب حياة للعالم" ومعلوم أنّ جسد المسيح لم ينزل من السّماء بل نزل من رحم مريم وكلّ ما نزل من السّماء الإلهيّة هو روح المسيح، ولمّا ظنّ اليهود أنّ حضرته يقصد الجسد اعترضوا عليه كما ورد في الآية 42 من الأصحاح المذكور إذ قالوا
"أليسَ هذا هو يسوع بن يوسف الذّي نحن عارفون بأبيه وأمّه فكيف يقول هذا أنّي نزلت من السّماء" فانظروا كيف اتّضح أنّ مقصد حضرة المسيح من الخبز السّماويّ هو روح حضرته وفيوضاته وكمالاته وتعاليمه كما يبيّن في الآية 63 من الفصل المذكور "الرّوح هو الذّي يحيي أمّا الجسد فلا يفيد شيئاً"
إذاً اتّضح أنّ روح المسيح كانت نعمة سماويّة نازلة من السّماء، وكلّ من يستفيض من هذه الرّوح أي يأخذ من التّعاليم السّماويّة يجد حياة أبديّة، لذا يقول في الآية 35 منه "فقال لهم يسوع أنا هو خبز الحياة من يقبل إليّ فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً" فلاحظوا كيف أنّه يوضّح الأكل بالإقبال والشّرب بالإيمان، إذاً صار من الواضح المحقَّق أنّ المائدة السّماويّة والفيوضات الرّحمانيّة والتّجلّيات الرّوحيّة والتّعاليم السّماويّة والمعاني الكليّة هي حضرة المسيح، والأكل عبارة عن الإقبال والشّرب كناية عن الإيمان حيث كان لحضرته جسد عنصريّ وهيكل سماويّ، فالجسد العنصريّ صُلِب وأمّا الهيكل السّماويّ فحيّ باقٍ وسبب
الحياة الأبديّة، الجسد العنصريّ كان طبيعة بشريّة والهيكل السّماويّ كان طبيعة رحمانيّة، سبحان اللّه قد يتصوّر البعض بأنّ خبز القربان هو حقيقة حضرة المسيح حلّ فيه اللاّهوت وروح القدس، مع أنّه عندما يؤكل القربان يصير فاسداً ويتغيّر بالكلّيّة بعد عدّة دقائق، فكيف يمكن إذاً تصوّروهم هكذا، أستغفر اللّه عن هذا الوهم العظيم.

وخلاصة المقال أنّ بظهور حضرة المسيح انتشرت تعاليمه المقدّسة التّي هي الفيض الأبديّ وسطعت أنوار الهداية وبذلت روح الحياة للحقائق الإنسانيّة، فكلّ من اهتدى صار حيّاً ومن ضلّ مات موتاً أبديّا، وذلك الخبز النّازل من السّماء هو الهيكل الملكوتيّ لحضرة المسيح وعنصره الرّوحانيّ وهو الذّي تناول منه الحواريّون ففازوا بالحياة الأبديّة، وقد تناول الحواريّون من يد حضرة المسيح أطعمة كثيرة فلماذا امتاز العشاء الرّبانيّ، إذاً صار من المعلوم أنّه ليس المراد من الخبز السّماوي الخبز العنصريّ، بل المقصود منه المائدة الإلهيّة والهيكل الرّوحانيّ لحضرة المسيح، وهي تلك الفيوضات الرّبانيّة والكمالات الرّحمانيّة التّي أخذ الحواريّون منها نصيباً حتّى شبعوا، وكذلك لاحظوا لمّا أن بارك حضرة المسيح الخبز وقال هذا جسدي ووهبه للحواريّين، كان حضرته موجوداً بينهم بشخصه وذاته وما استحال إلى خبز وخمر، ولو استحال إلى خبز وخمر لوجب بعد هذا أن لا يكون حضرة المسيح مجسّماً ولا مشخّصاً ولا معيّناً عند الحواريّين في ذلك الوقت.

إذاً اتّضح أنّ الخبز والخمر رمزان أراد بهما أن يقول أعطيت لكم فيوضاتي وكمالاتي وحيث أنّكم استفضتم منها فقد وجدتم حياة أبديّة وفزتم بحظّ من المائدة السّماويّة.

8- إنجيل يوحنّا، الأصحاح السّادس الآية 51.

Tuesday, December 9, 2008

يس لعالم الوجود بداية-مبدأ الإنسان


ليس لعالم الوجود بداية
مبدأ الإنسان

اعلم أنّ إحدى غوامض المسائل الإلهيّة هي أنّ هذا الكون الذّي لا يتناهى لا أوّل له، ولقد سبق بيان أنّ نفس أسماء وصفات الذّات
الإلهيّة تقتضي وجود الكائنات، ومع أنّ ما قد بيّنّاه كان مفصّلاً إلاّ أنّنا سنتكلّم عنه الآن ثانية باختصار.
فاعلم أنّه لا يمكن أن يتصوّر ربّ بلا مربوب، ولا يتحقّق وجود ملك بلا رعيّة، ولا معلّم بغير متعلّم، ولا يمكن وجود خالق بدون مخلوق، ولا يخطر بالبال رازق من غير مرزوق، لأنّ جميع الأسماء والصّفات الإلهيّة تستدعي وجود الكائنات، فلو نتصوّر أنّ الكائنات عامّة لم تكن موجودة وقتاً ما، فهذا التّصوّر إنكار لألوهيّة الله، وفضلاً عن هذا فالعدم المطلق غير قابل للوجود، فلو كانت الكائنات عدماً مطلقاً لما تحقّق الوجود، ولما كان وجود ذات الأحديّة أي الوجود الإلهيّ أزليّاً سرمديّاً يعني لا أوّل له ولا آخر، فلا بدّ وأنّ عالم الوجود يعني هذا الكون الذّي لا يتناهى لم تكن قطّ له بداية.
نعم قد يصحّ ويمكن أن يحدث وجود جزء من أجزاء الممكنات أي جرم من الأجرام أو أن يتلاشى، غير أنّ سائر الأجرام اللامتناهيّة تظلّ موجودة، فعالم الوجود أبديٌّ لا ينعدم، وحيث أنّ لكلّ جرم من هذه الأجرام بداية فلا بدّ له من نهاية، لأنّ كلّ تركيب سواء كان جزئيّاً أم كلّيّاً لا بدّ له من أن يتحلّل، وغاية ما هنالك هو أنّ بعض المركبات سريع التّحليل وبعضها بطيء التّحليل، فمن المستحيل أن يتركّب شيء وثمّ لا يتحلّل، إذاً يجب أن نعلم كيف كان كلّ موجود من الموجودات العظيمة في أوّل أمره، ولا مريَة أنّه في البدء كان الأصل واحداً ولا يمكن أن يكون اثنين، لأنّ مبدأ جميع الأعداد واحد لا اثنان، فالاثنان محتاجة إلى المبدأ. إذاً صار من المعلوم أنّ المادّة في الأصل واحدة، وتلك المادّة الواحدة تحوّلت في كلّ عنصر بصور مختلفة، ولهذا ظهرت صور متنوّعة، ولمّا ظهرت هذه الصّور المتنوّعة أخذ كلّ منها شكلاً خاصّاً وصار عنصراً مستقلاً، ولم يتحقّق استقلال العنصر ولم يتمّ تكوينه إلاّ بعد مدّة مديدة، ثمّ إنّ هذه العناصر تركّبت وترتّبت وامتزجت بصور غير متناهية، يعني ظهرت الكائنات الّتي لا تتناهى من تركيب وامتزاج هذه العناصر، وحصل هذا التّركيب والتّرتيب بحكمة الله وقدرته القديمة بنظمٍ طبيعيٍّ واحدٍ، ومن حيث أنّها تركّبت وامتزجت بهذا النّظم الطّبيعيّ في كمال الإتقان ومطابقة للحكمة تحت قانون كلّيّ، فمن الواضح أنّها إيجاد إلهيّ وليس تركيبها وترتيبها صدفة، لأنّ معنى الإيجاد أن يوجد من كلّ تركيب كائن، أمّا من التّركيب التّصادفيّ فلا يوجد أيّ كائن، مثلاً لو أنّ الإنسان مع عقله وذكائه يجمع عناصر ويركبّها فلا يمكن أن يوجد منها كائن حيّ، لأنّها أتت على غير النّظم الطّبيعيّ، وهذا جواب عن سؤال مقدّر وهو من حيث أنّ هذه الكائنات حادثة من تركيب وامتزاج هذه العناصر، فنحن أيضاً نجمع هذه العناصر ونمزجها لإيجاد كائن حيّ، فلو نتصوّر مثل هذا لكان هذا التّصوّر خطأ، لأنّ أصل هذا التّركيب تركيب وامتزاج إلهيّ على نظم طبيعيّ، وبذلك يوجد كائن ويتحقّق وجود، أما من التّركيب البشريّ فلا يحصل ثمر، لأنّ البشر لا يقدر على الإيجاد، والخلاصة أنّنا قلنا قد ظهرت الصّور والحقائق الّتي لا تتناهى والكائنات الّتي لا تنحصر من تركيب العناصر وامتزاجها وكيفيّتها وتراكيبها وموازينها وتأثير بعضها على بعض.
أمّا هذه الكرة الأرضية فمن الواضح أنّها لم تتكوّن دفعة واحدة على هيئتها الحاضرة، بل إنّ هذا الموجود الكلّيّ اجتاز أطواراً مختلفة بالتّدريج حتّى بلغ هذا الكمال، والموجودات الكلّيّة تقاس بالموجودات الجزئيّة وتطبّق عليها، لأنّ الموجود الكلّيّ والموجود الجزئيّ كليهما
تحت نظم طبيعيّ واحد وقانون كلّيّ وترتيب إلهيّ، مثلاً تجد الكائنات الذرّيّة ينطبق عليها في النّظام العامّ ما ينطبق على أعظم الكائنات، فمن الواضح أنّها تكوّنت في مصنع قدرة واحدة على نظم طبيعيّ واحد وقانون عامّ واحد، فلهذا يقاس بعضها ببعض، مثلاً إنّ نطفة الإنسان نشأت ونمت في رحم الأمّ بالتّدريج وأخذت صوراً من أطوار مختلفة حتّى وصلت إلى البلوغ في نهاية درجة من الجمال وتجلّت بهيئة كاملة في نهاية اللّطافة، وعلى هذا المنوال بذر هذه الزّهرة الّتي نشاهدها، فقد كان في بدايته شيئاً حقيراً في نهاية الصّغر ثمّ نشأ ونما في بطن الأرض ومرّ بصورٍ مختلفة إلى أن تجلّى بكمال الطّراوة واللّطافة في هذه الرّتبة. وكذلك من الواضح أنّ هذه الكرة الأرضيّة تكوّنت في رحم العالم، ونشأت ونمت ومرّت بصور وحالات مختلفة حتّى وصلت بالتّدريج إلى كمالها وزيّنت بمكوّنات غير متناهيّة وتجلّت في نهاية الإتقان.
إذاً اتّضح أنّ تلك المادة الأصليّة الّتي هي بمنزلة النّطفة كانت عناصرها المركّبة الممتزجة الأوّليّة موجودة، وهذا التّركيب نشأ ونما بالتّدريج في الأعصار والقرون، وانتقل من شكل وهيئة إلى شكل وهيئة أخرى حتّى بلغ هذا الكمال والنّظام والتّرتيب والإتقان بحكمة الله البالغة.
والآن فلنرجع إلى مسألة أنّ الإنسان في بدء الوجود نشأ ونما تدريجيّاً في رحم الكرة الأرضيّة كالنّطفة في رحم الأمّ، وانتقل من صورة إلى صورة ومن هيئة إلى هيئة حتّى تجلّى بهذا الجمال والكمال وهذه القوى والأركان، ويقيناً أنّه ما كان في البداية بهذه اللّطافة والجمال والكمال، بل وصل بالتّدريج إلى هذه الهيئة والشّمائل والحُسن والملاحة كنطفة الإنسان في رحم الأمّ، ولا شكّ أنّ النّطفة
البشريّة ما أخذت هذه الصّورة دفعة واحدة وما كانت مظهر قوله تعالى "فتبارك الله أحسن الخالقين"
[i]. لهذا أخذت حالات متنوّعة بالتّدريج وظهرت في هيئات مختلفة حتّى تجلّت بهذه الشّمائل وهذا الجمال والكمال والحسن واللّطافة، إذاً صار من الواضح المبرهن أنّ نشوء الإنسان ونموّه على الكرة الأرضيّة حتّى بلوغه هذا الكمال كان مطابقاً لنشوء الإنسان ونموّه في رحم الأمّ بالتّدريج وانتقاله من حال إلى حال ومن هيئة وصورة إلى هيئة وصورة أخرى، حيث أنّ ذلك تمّ بمقتضى النّظام العامّ والقانون الإلهيّ الكلّيّ، يعني تمرّ نطفة الإنسان بحالات مختلفة ودرجات متعدّدة حتّى ينطبق عليها قوله تعالى "فتبارك الله أحسن الخالقين" وتظهر فيها آثار الرّشد والبلوغ.
وعلى هذا المنوال كان وجود الإنسان على هذه الكرة الأرضيّة من البدء حتّى وصل إلى هذه الحال من الهيئة وجمال الأخلاق، بعد أن مضت عليه مدّة طويلة واجتاز درجات مختلفة، ولكنّه من بدء وجوده كان نوعاً ممتازاً.
كذلك نطفة الإنسان في رحم الأمّ كانت في أوّل أمرها بهيئة عجيبة، فانتقل هذا الهيكل من تركيب إلى تركيب ومن هيئة إلى هيئة ومن صورة إلى صورة حتّى تجلّت النّطفة في نهاية الجمال والكمال، ولكنّها عندما كانت في رحم الأمّ وفي تلك الهيئة العجيبة – الّتي تغاير تماماً ما هي عليه الآن من الشّكل والشّمائل – كانت نطفة نوع ممتاز لا نطفة حيوان، وما تغيّرت نوعيّتها وماهيّتها أبداً، وعلى فرض تحقّق وجود أثر لأعضاء تلاشت فإنّ هذا لا يكون دليلاً على عدم استقلال النّوع وأصالته، وغاية ما هنالك أنّ الهيئة والشّمائل والأعضاء الإنسانيّة قد ترقّت ولكنّها مع ذلك التّحوّل كانت نوعاً ممتازاً، وكان إنساناً لا حيواناً، مثلاً لو انتقلت نطفة الإنسان في رحم الأمّ من هيئة إلى هيئة بحيث لا تشابه الهيئة الأولى بأيّ وجه من الوجوه فهل يكون ذلك دليلاً على أنّ النّوعيّة تغيّرت بأن كانت في البداية حيواناً ثمّ نشأت أعضاؤها وترقّت حتّى صارت إنساناً!! لا والله.
والخلاصة إنّ هذه النّظريّة في غاية من الضّعف وواهيّة الأساس لأنّ أصالة نوع الإنسان واستقلال ماهيّته واضحة مشهودة والسّلام.(من مفاوضات حضرة عبد البهاء)

1- القرآن الكريم سورة المؤمنون الآية 14.
Powered By Blogger