Friday, June 20, 2008

من الئاليء والأصداف

ونتابع مع ناقة النبى صالح(ع)
(5)
أما ما ورد بهذا الخصوص في سورة الشعراء:
* [كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ](141 الشعراء).
فيبدو أن ما جئنا عليه احتوى شيء من الحقيقة، عندما قلنا أن الله سبحانه وتعالى قد أمهل أمة ثمود ثلاثة أيام، أي مدة ثلاثة أيام شرائع، أي مدة ثلاثة رسل، أي مدة أكثر من ثلاثة آلاف سنة حتى يمحو آثارهم تماما. فهذه الآية الكريمة تقول أنهم حققوا بعنادهم وكفرهم هذه النبوءة الإلهية وكفروا واعرضوا عن ثلاث رسالات تالية أو اكثر بعد ظهور رسالة النبي صالح(ع).
* [إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ](142 الشعراء).
وأن موعد فنائهم الجسدي والمادي والروحاني قد رسموه بتعصبهم ووقعوه بأيديهم، وكانت بدايته من لحظة إنذار النبي صالح لهم ودعوته إياهم للايمان والتقوى.
* [إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ](143 الشعراء).
وإعلانه رسالته الإلهية ومقامه الكريم.
* [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ](144 الشعراء).
وطلبه منهم ترك ما توارثوه عن آبائهم وأجدادهم من أفكار مضلّة مخالفة لمرضاة الله، ونصحه لهم بالاستجابة والايمان بدينه الجديد الذي سيعيدهم الى عبادة الله والاكتفاء بآيات كتبه.
* [وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ] (145 الشعراء).
وأن كل هذه النعم والبركات التي أعدكم بها، لن أحصل منها على شيء، وستكون خالصة بتمامها لكم ولأجيالكم من بعدكم.
* [أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ](146 الشعراء).
ألا تتذكرون ما جنيتموه من بركات وخيرات بسبب أيمانكم السابق؟ فما هدف دعوتي إلا لدوامها عليكم، ولن يديمها إلا تجديد أيمانكم، فلا تطمئنوا لدوامها بعد الآن، فلقد حان وقت قطاف ثمارها.
* [فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ](147 الشعراء).
وراح يعدهم بتحسن أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية بمجرد الاستجابة له. وبهذا فهو يربط للمرة الثانية بين تحسن أحوالهم الاقتصادية وبين أيمانهم.
وبهذا نفهم قوة العلاقة بين ظهور الحضارات الانسانية وبين الأيمان الحق، وأن الأولى تبدأ بالزوال بمجرد البعاد عن صراط الله المستقيم. وأن هناك علاقة قوية أيضا بين الروحانيات والماديات، فمتى كان الأيمان حق وحيّ، دامت النعم والبركات، ومتى ما نسخ الأيمان بأيمان آخر، زالت كل تلك النعم وانقلب تأثيرها الى نقمة وعذاب.
* [وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ](148 الشعراء).
ومثلما سبق الاشارة الى تأثير الروحانيات على الماديات في الآية السابقة، تركّز هذه الآية الكريمة على موارد رزقهم وخيراتهم المادية وأن من أسباب قوة اقتصاد قوم ثمود في تلك الأزمنة السحيقة كان يعتمد على الزراعة وتصدير التمور الى بقية الأقوام الأخرى.
ومهما يكن من معاني الزروع والنخيل المادي، إلا أنه لا يمكن غض الطرف عن معانيها الروحانية، فنلاحظ في هذه الآية الكريمة الاشارة الخفية لتأثيراتها المعنوية، فهي تمثل بصورة جميلة ما سبق وظهر بينهم نتيجة أيمانهم بدينهم القديم، من بواسق نخيل المؤمنين وأشجار العلماء وفواكه حكمة رجال العلم والعرفاء وثمار العلوم والمعارف وفواكه الايمان التي ساهمت بإيجاد حضارتهم القديمة وكيف ظهرت كل تلك الآثار الطيبة بينهم بكل سهولة ويسر ودون كثير عناء.
* [وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ](149 الشعراء).
ومن الوارد أيضاً، أن الآية الكريمة هنا تشير الى حدث واقعي تاريخي وتدلل على أن قوم ثمود كانوا يسكنون مناطق جبلية وقاموا بنحت صخور الجبال على أشكال بيوت وقصور وسكنوا واستقروا فيها. فهو ينسب قدرتهم على إنجاز مثل تلك الأعمال العظيمة الى تنوّر عقولهم بعد أيمانهم بدينهم السابق، فلقد كان الأيمان هو المحفّز الحقيقي والقوة الدافعة الخلاّقة لما سال من أنهار الاختراعات والاكتشافات من بين أيديهم، وليس فقط من خلال تفتق عقولهم الذاتية.
* [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ](150 الشعراء).
فخافوا الله الذي تعبدونه وأخشوه وأطيعوني في دعوتي الجديدة، فسرّ بقاء واستمرار كل ما تمتعتم به من جنان الخيرات وقوة الحضارة، كان بسبب صدق أيمانكم القديم، ولا يمكنكم العودة الى سابق عزتكم، إلا بالعودة الى جنان الأيمان وعيون الأيقان، فهما أمران مرتبطان ببعضهما، واعلموا أنه لا سبيل لكم غير هذا السبيل.
* [وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ](151 الشعراء).
فالخير كل الخير لكم أن تتقدموا للأيمان وتبتعدون عن ما يدعوكم له القشريين من رجال دينكم القديم وسحرة عقولكم المزيفين وكل من بالغ في تمجيد أحكام دينكم المنسوخ وجاهد في مغالاته له، فليس هذا إلا سبيل الهلاك.
* [الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ](152 الشعراء).
من الذين يفسدون أراضي عقول الناس وقلوبهم ومعتقداتهم ويزرعونها بشـوك الريبة والظنون وحسـك الكفـر والضلالة حينما يدعون اتباعهم للتمسك بأذيال شريعتهم التي أمر الله بنسخها وإبطال أحكامها، فكل من يخالف أمر الله ويدعو لغير ما ينزله من جديد الأحكام، ما هو إلا من المفسدين لعقول الناس وقلوبهم في الأرض، فلا تظنوا أنهم يصلحون أرض الدنيا وأرض نفوسكم بالأيمان، فلقد انقلب منـذ هـذه اللحظـة تأثيرهم الصالح الى تأثير طالح وهم غافلون لا يعلمون، كما قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(11 البقرة).
* [قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ](153 الشعراء).
لكن المستكبرين من قوم ثمود لم يخرجوا عن ما سبق وقاله المعرضون والكافرون السابقون واللاحقون من أمم أصحاب الكتاب، وأصروا على التمثل بهم والسكن في مساكن كفرهم، وراحوا يصفون النبي صالح(ع) بأنه واقع تحت تأثير سحر ساحر أو أنه رجل دين جديد يريد أن يسحر عقولهم بجديد تفاسيره.
* [مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ](154 الشعراء).
ولما لم يشاهدوا في شخصيته حسب الظاهر، ما يميزه عن غيره من بقية البشر، وأنه رجل مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وينام ويمرض، كما قال تعالى (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا)(7 الفرقان)، طلبوا منه أن يأتيهم بمعجزة مادية خارقة لقانون الطبيعة تثبت صدق دعوته. أما كيف نفهم أنهم طلبوا منه معجزة مادية خارقة للعادات وليس آية أو سورة في كتاب منزل، فذلك لأن الله سبحانه وتعالى قال أنه لم يسبق أن أرسل رسول من قبل ظهور سيّد المرسلين، إلا وكان معه كتاب (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)(38 الرعد)، وهذا يعني أن قوم ثمود يطالبون نبيّهم بمعجزة مادية خارقة للعادات ولقوانين الطبيعة وليس بآيات إلهية مكتوبة. وهذا يدل على أن ديدن الناس وعادتهم منذ الأزل هو شدّة التعلق والتمسك بالتقاليد والعادات والتحايل قدر الإمكان للتهرب من نعمة أديان الله.
* [قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ](155 الشعراء).
فكان جوابه على طلبهم، أن قدّم لهم آيات شريعته. أما لو كان المقصود من الناقة هنا هو هذا الحيوان المعروف بين الناس، فليس من المعقول أو الإنصاف أن يشترط النبي صالح على قومه هذا الشرط الصعب المستحيل ويطالبهم بتقاسم ماء الشرب مع ناقته،، وهو الرجل المرفوض والمستهجن بينهم، وأن يشربوا هم وجميع نوقهم وإبلهم وماشيتهم في مدة يوم واحد، ويتركهم عطاشى لمدة يوم آخر كامل تترك ناقته لوحدها لتشرب فيه وهي مستلقية مرتوية والماء من دونها لا يرده أحد. ثم ليس من المعقول أن يكون لهذا الجمع من الناس وماشيتهم بئر أو ساقية واحدة فريدة يشربون منها لا غير. كما لا يمكن تصور نزول هذا الحكم بهذه الصيغة وهذا المنظور من رب العزة والعدل أعدل العادلين.
لكن المقصود من الناقة هنا وكما ذكرنا، هي ناقة الشريعة القوية المقدسة التي ستنقل قوم ثمود ومن يحذو حذوهم الى جنة الايمان وأرض القرب من الله ودينه. لذلك فمقصود النبي صالح(ع)، أنه قد سبق وخصص الله سبحانه وتعالى لكل شريعة ودين من أديانه، يوم إلهي كامل معلوم، بدأ منذ ساعة ظهوره وإشراق شمسه، وانتهى في ساعة ظهور ما تلاه من إشراقات شموس أديانه. فالنبي صالح يحاول إخبار قومه أن الحقبة التالية والزمن القادم ويوم الله التالي مخصص لناقة شريعته ودينه لترعى في أراضي قلوب الناس والعباد وعقولهم ولتشرب من مياه أعمال المؤمنين الصالحة وتسقيهم من لبن أحكامها الخالصة.
وفي هذه الحالة ومن خلال هذا المفهوم، يكون النبي صالح(ع) قد أنصف قومه وعدل بينهم ورحمهم بتوضيح هذه الحقيقة الإلهية ولم يظلمهم، وحاول جاهدا ان يشرح لهم أن يوم شريعتهم قد انقضى، وها قد حل عليهم يوم شريعة جديدة، وما عليهم إلا أن يفسحوا المجال لها لترتع في أراضي قلوب العباد. وبهذا يصح الحكم ويتفق العدل والإنصاف الإلهي، في حكمه: أن لكم ولشريعتكم يوم شرب كامل، وأن لي ولشريعتي يوم شرب آخر كامل.
* [وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ](156 الشعراء).
ومرة أخرى، ليس من المعقول أن يوافق خصوم وأعداء النبي صالح(ع) على طلبه وشرطه بترك دابته تهيم في أرضهم وحقولهم تأكل من حيث تشاء وتتلف ما تشاء من زرعهم وموارد رزقهم، خاصة وهو يواجههم ويدعوهم الى ترك دينهم السابق وموروثات معتقداتهم والايمان بدينه الجديد. لكن المعنى:ـ
ولا تعاندوا ناقة دين الله وشريعته، ولا تحاربوها وتتعصبوا لمعتقداتكم القديمة في هذا الظهور الجديد، لأن من يفعل ذلك يستقطب عذاب الله عليه.
* [فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ](157 الشعراء).
لكن قوم ثمود لم يتعظوا بهذه النصائح، ولم يصدقوا أقوال نبيّهم ولم يفهموا أسرار إشاراته، فحاربوه ودينه وأتباعه، وبذلك كانوا محط غضب الله. وعندما راحت تنهال عليهم أمطار البلايا وتهب عليهم رياح الرزايا وصواعق المحن والمصائب مـن كـل حدب وصوب، وانحط شأنهم وذلت رقابهم وتشتت شملهم، ندموا على ماضيهم التليد وعلى ما ضاع منهم وما كانوا يتمتعون به من جنان النعم والبركات.
* [فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ](158 الشعراء).
ومع مرور الوقت، واستمرارهم على الصد والعناد، ولظنهم الخاطئ أن ما أوجدوه من حضارة عظيمة كان من خلال قدراتهم الذاتية فقط وليس لأيمان أجدادهم بدينهم سببا مباشراً أو مؤثراً في ذلك، لم يتمكنوا من العثور على وسيلة تخلصهم مما حل بهم من سوء حال. وهذا هو السبب من تكرار ذكره في القرآن الكريم، فهو عبرة ونصيحة وموعظة سماوية لجميع الناس من بعدهم، حتى لا يكرروا أعمال قوم ثمود ومن كان على شاكلتهم، ولا يرتكبوا ذات خطا الانسان الأزلي.
* [وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ](159 الشعراء).
فالله سبحانه وتعالى عزيز غني مستغن عن عبادة خلقه، لا يزيد أيمانهم في ملكه شيئا ولا ينقص كفرهم من ملكه شيء. لكنه رحيم بهم جميعا، يرحمهم في كل مرة برسالة وشريعة جديدة رغم أخطائهم وأفعالهم حتى يرفع من شأنهم وينور عقولهم ويهديهم سبل الخير والصلاح وتعمير الأرض.


ونتابع معكم-من معانى ناقة النبى صالح(ص)

Thursday, June 12, 2008

من معانى-ناقة النبى صالح(ع)

تأملات روحانية مع سيفى سيفى
ونتابع مع ناقة النبى صالح(ع)
(4)

وجاء في سورة الإسراء بخصوص موضوع الناقة:* [وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا](59 الإسراء).نعود مرة أخرى لمعنى كلمة (بِالآيَاتِ)، وعلينا أن نتذكّر أن لها معنيين، الأول هو الآيات الإلهية النازلة من سماء فضله المسطّرة في كتبه المقدسة، والثاني هي المعجزات المادية الخارقة لقوانين الطبيعة. فلو كانت هذه الآية الكريمة تشير الى المفهوم الأول، أي آيات الكتب السماوية، فهذا أمر يخالف سنة الله وطريقته المقدسة، ويخالف ما حصل من استمرار بعث المزيد من الرسل والرسالات والكتب والآيات من زمن النبي صالح(ع) حتى زمن سيدنا محمد(ص)، كما قال تعالى (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ)(4 الحجر). لذلك فهذه الآية الكريمة مورد البحث، تشير الى المعنى الثاني، فهو أقرب الى المنطق والعقل السليم، أي أن الآية الكريمة تتكلم عن المعجزات المادية، وتشير الى أن الله سبحانه وتعالى ورسله الكرام، كانوا في ما مضى يجرون هذه المعجزات المخالفة لقوانين الطبيعة ويفعلونها عندما كان لها فيما سبق تأثير فعال مفيد على قلوب الناس وعقولهم، وتظهر منها نتائج مرجوة ويؤمن بشرائع الله الكثير منهم؛ إلا أن الله ورسله الكرام قد امتنعوا عن إجرائها فيما بعد مع تقدم الزمان وتغير أحوال الناس وتنوّر عقولهم، فلقد أصبح البشر لا يقتنعون بها ويطالبون بالأدلة العقلية والحجج العلمية. لذلك يبدو أنه ومنذ ظهور النبي صالح، توقف حصول المعجزات المادية وأصبحت الأدلة والحجج الإلهية تقتصر على الأدلة العقلية والبراهين العلمية، أي أن البشرية دخلت مرحلة جديدة من مراحل الإقناع والمحاجة والمناقشة منذ زمن ظهور النبي صالح(ع). وهذا يشير من ناحية أخرى الى ابتداء توجيه الخطاب الإلهي الى شريحة خاصة من المجتمعات، ألا وهي شريحة المختصين بأمور الدين ورجاله، باعتبارهم المطّلعون على هذه الأمور الروحانية والقادرون على تمييز آيات الله الحقة ومعرفة دلائلها العلمية والتاريخية.وبالاختصار يبدو أن الآية الكريمة تتكلم عن مرحلتين من مراحل تطور عقول البشر، المرحلة الأولى عندما كان الخطاب الإلهي عاما لجميع الناس دون استثناء يرافقه إظهار المعجزات الخارقة لقوانين الطبيعة. أما المرحلة الثانية، فكانت تحول الخطاب الإلهي نحو عقول عقلاء وعلماء الأمم المهتمين بشؤون الدين والروحانيات دون سواهم، أي رجال الدين، أي مخاطبة النخبة وإعطائهم فرصة النشر والتبليغ بين الناس. وهذا نوع من أنواع التكريم للانسان، وهو مجال مفتوح لمن شاء منكم أن يستقيم، وهذا ما يؤكده ويتضح اسلوبه في القرآن الكريم، في قوله تعالى عندما يشيد ويثمّن دور رجال الدين (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)(28 فاطر)، وكذلك قوله الكريم (لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(63 المائدة)، وكذلك قوله الكريم (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)(82 المائدة).ويبدو أن هذا التحليل قريب الى الحقيقة بعض الشيء، فلو كان لهذه المعجزات المادية الطبيعية تأثير فعال جازم على تغيير قلوب الناس حين حصولها بعدما ارتفع مستوى تفكيرهم وجدالهم، وأن باستطاعتها نقلهم من صحراء الكفر الى جنان الأيمان والخشوع، لما بقي كافر على الأرض في هذا الزمان، ولبطل مفعول الامتحان الإلهي ولما تبين المؤمن من الكافر ولما اتضحت أسرار القلوب والسرائر. فالله سبحانه وتعالى عالم بعلمه الغيبي مقدار تعصب الكافرين وغلظة قلوبهم واستحالة أيمانهم، كما قال تعالى فيما بعد بآلاف السنين عن لسانهم (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعًا . أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً . أَوْ يَكُـونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاً)(90-93 الإسراء). لكنه ومثلمـا تغيرت طريقـة امتحان الناس قبل آلاف السنين من حالة إجراء المعجزات المادية الى طريقة تنزيل الحجج العقلية والنقلية، كذلك تغيرت في المقابل طريقة اعتراض البشر، فظهرت بينهم آفات مستعصية، مثل التعصب والغلو وأمراض الصدّ والعنـاد، التي تبين فيما بعد أنها من أقوى السدود وأعلاها أمام تقدمهم للأيمان برسل الله، كما أشارت الى ذلك الآيتين الكريمتين (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)(54 الكهف)، وكذلـك قوله الكريم (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا)(89 الإسراء).وبظهور سيّد المرسلين ومن قبله السيد المسيح عليهما الصلاة والسلام، تبين ان هذه الطريقة الإلهية تلاقي ذات المعارضة البشرية إن لم يكن أكثر من قبل، وظهر ان آيات القرآن الكريم بكل بلاغتها وفصاحتها وقوة معانيها وشدة تأثيراتها الروحانية والعلمية، لم تؤثر وقت نزولها كثيرا في قلوب عموم البشر، فلقد رفضها كبار رجالات العرب ورؤسائهم المشركين وفطاحل شعرائهم قبل غيرهم، بينما سارع المستضعفون وغير الأعراب للأيمان بدين سيّد المرسلين قبل غيرهم، أمثال بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي.. الخ.إذن فهذه الآية الكريمة، تسلط قبساً من أنوار الحقيقة على تلك الفترة السحيقة المتغلغلة في أعماق التاريخ، لتكشف عن ما سبق وحصل من تغيّر نوعي في عقلية الناس ومفاهيمهم وطرق تفكيرهم، وعن مرحلة من مراحل تطور عقول البشرية قبل آلاف السنين، ولابد أن يكون قد صاحب ذلك تغيرات واضحة أدّت الى تقدم أحوال مجتمعاتهم. ومما يدلل على صحة هذه النظرية، ما جاءنا عن طريق القرآن الكريم من أخبار المعجزات الخارقة لقوانين الطبيعة التي أجراها سيدنا المسيح(ع)، حيث لم يمنع إجرائها ما حصل له فيما بعد من عذاب واضطهاد، فلقد علّق على صليب العناد ورفع على أخشاب التعصب وثقبت أطرافه بمسامير الكفر، ولم يؤمن بدعوته إلا ثلة من الرجال والنساء فقط. فلو كان لها تأثير فعّال مؤثر في قلوب الناس وعقولهم، لبقيت تلك الجموع من اليهود وغيرهم، موقنين ثابتين على أيمانهم به ولم يرتدّوا عن دعوتـه حال إلقاء القبض عليه، بعدما كانوا يتبعونه ويتبركون بأذيال ردائه حيثما ذهب ويتمنون منه خلاصهم من أمراضهم وعاهاتهم، ولنصروه ووقفوا الى جانبه في وجه الكافرين والمشركين ومنعوا أذاهم عنه، ولما تركوه وحيدا معلقا على صليب الكفر.وعلى كل حال، لا يؤمن بحصول مثل هذه المعجزات المخالفة لقوانين الطبيعة عن رسل الله وأنبيائه، إلا من ولد على اسم دين من أديان الله، وقرأ عنها في كتابه المقدس، وسمعها عن لسان رجال دينه وفهمها بشكلها الظاهري.إذن، فالآية الكريمة تقول: لقد توقفنا عن إجراء المعجزات المادية الخارقة لقوانين الطبيعة، منذ أن راح الناس لا يصدقونها، فلقد باتت حججاً غير مقنعة ودلائل غير كافية، لذلك انتقلنا الى مرحلة جديدة في التخاطب مع العباد، واختصصنا شريحة رجال الدين وعلمائه، بأدلتنا الإلهية وحججنا الربانية لتتوافق مع تحسن أحوال الناس ومستوياتهم الذهنية، وجعلنا مسألة الأيمان والكفر تعتمد على قوتي العقل والمنطق السليم والحجج النقلية، فمن شاء منكم أن يؤمن ومن شاء منكم أن يكفر، كما قال تعالى (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)(10 البلد). ولقد أظهرنا على قوم ثمود ناقة شريعة صالح(ع) وكان فيها من الآيات المحكمات والبشارات الربانية والأحكام السماوية والانذارات الشديدة، ما يكفي لتنوير قلب وعقل وبصيرة كل من يتوجه لها بقلب صاف منير طافح بالأيمان. لكن قوم ثمود راحوا يظلمون أنفسهم ونفوس غيرهم بالبعاد عنها والصد والكفر بها، لأن الغاية الحقيقية من إرسالنا وتنزيلنا لكل هذه الأمثال والقصص، ما هو إلا لتخويف الناس من الكفر وتحذيرهم من مخالفة أمر رب العباد، حتى يتقربوا الى الله ويؤمنوا برسله، إذ لم يعد لخوارق العادات تأثير ملحوظ في إقناع الناس.أما لماذا يشبّه سبحانه وتعالى شريعة النبي صالح(ع) بالناقة، ولماذا يذكرها وقد أبطل استعمال المعجزات المادية، فأكثر الظن أنه يريد أن يترك في قرآنه الكريم أثراً ودليلاً واضحاً على وجود تلك العلاقة الوثيقة والرابطة القوية بين المرحلتين في قديم الزمان ويؤكد على وجودهما معاً، وبالتالي فهو يريد أن يبقي أثراً أو علامة على قدم تاريخ البشرية وعلى تلك الدورات الرسالية التي ضمّت كل واحدة منها مجموعة من الرسل والشرائع، وفي نفس الوقت، يستمر في تمجيد ذكرى من استجاب له ولرسالاته من المؤمنين القدماء ويلقي قبسات نوره على أدوارهم العظيمة وكيف استمرت ولم تنقطع سلسلة المؤمنين على مر التاريخ البشري، فيتحقق قوله تعالى (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ)(24 فاطر)، وكذلك (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا)(1 الإنسان
ونتابع معكم معنى ناقة النبى صالح(ع)-فتابعونا فى الحلقات القادمة.....
Powered By Blogger