Sunday, February 22, 2015

مسألة التّناسخ


مسألة التّناسخ
.
أن الّذين يعتقدون التّناسخ هم على قسمين: قسم لا يعتقد بالثّواب والعقاب المعنويّين في الدّار الآخرة، ويرون أنّ الإنسان بالتّناسخ والرّجوع إلى هذا العالم يلقى المجازاة والمكافأة. وأنّ النّعيم والجحيم مقتصران على هذا العالم ولا يعترفون بعالم آخر، وهذه الفرقة أيضاً على قسمين: أحدهما يعتقد بأنّ الإنسان أحياناً يرجع إلى هذا العالم في صورة حيوان حتّى يرى المجازاة الشّديدة، وبعد تحمّله العذاب الأليم في العالم الحيوانيّ يرجع إلى عالم الإنسان مرّة أخرى، ويسمّون هذا تواسخاً.

والآخر يرى الرّجوع من عالم الإنسان إلى عالم الإنسان وبعد الرّجوع يرى الثّواب وجزاء الحياة الأولى، ويسمّون هذا تناسخاً، وكلا الفريقين لا يعتقد بعالم غير هذا العالم.
والقسم الثاني من أهل التّناسخ يعتقدون بالعالم الأخرويّ، ويعدون التّناسخ وسيلة للتّكامل، لأنّ الإنسان يكتسب الكمالات تدريجيّاً بالانتقال من هذا العالم والرّجوع إليه حتّى يصل إلى مركز الكمال، وبيان ذلك أنّ الإنسان مكوّن من المادّة والقوّة، فالمادّة ناقصة في البدء أي في الدّور الأول وحينما يتكرّر مجيئها إلى هذا العالم تترقّى وتحصل على الصّفاء واللّطافة حتى تصير شفّافة كالمرآة، والقوّة التّي هي عبارة عن الرّوح يتحقّق فيها بجميع كمالاته، هذه مسألة أهل التّناسخ والتّواسخ بالاختصار، على انه ليس لديهم دلائل ولا براهين عقليّة على صحّة هذه المسألة بل هي مجرد تصوّر واستنباط من القرائن لا من البرهان القاطع، فيجب أن يطلب البرهان من معتقدي التّناسخ لا القرائن والتّصوّر والوجدان، وهناك الدّلائل والبراهين على امتناع التّناسخ ، وأوّل برهان على الامتناع أنّ الظّاهر عنوان الباطن والملك مرآة الملكوت، والعالم الجسمانيّ مطابق للعالم الرّوحانيّ0
 فنلاحظ إذاً أنّ التّجلّي لا يتكرّر في العالم الحسي لأنّه ليس هناك كائن من الكائنات يشابه أو يماثل كائناً آخر من جميع الوجوه، فآية التّوحيد موجودة ظاهرة في جميع الأشياء، فلو أنّ خزائن الوجود ملئت من الحبوب فإنّك لا تجد بين حبّتين تطابقاً ولا تماثلاً ولا تشابهاً من جميع الوجوه، بل لا بدّ من وجود فرق وتمايز بينهما، وحيث أنّ برهان التّوحيد موجود في جميع الأشياء ووحدانيّة الحق وفردانيّته مشهودة في جميع حقائق الكائنات إذاً فتكرّر التّجلي الواحد ممتنع محال0
لهذا فالتّناسخ أي تكرار ظهور الرّوح الواحد في هذا العالم بماهيّته وشؤونه السّابقة يكون تجلّياً متكرّراً وهذا مستحيل وغير ممكن، وحيث أنّ تكرار الواحد لكلّ كائن من الكائنات النّاسوتيّة ممتنع محال، فكذلك تكرار التّجلي أيضاً للكائنات الملكوتيّة في أيّ مقام من المقامات سواء أكان في قوس الصّعود أم في قوس النّزول ممتنع محال، لأنّ النّاسوت مطابق للملكوت، ولكن عودة الكائنات النّاسوتيّة ورجوعها من حيث النّوع واضح، يعني أنّ الأشجار التي أتت في السّنين السّابقة بالأوراق والاكمام والأثمار أتت في السّنين اللاّحقة أيضاً بتلك الأوراق والاكمام والأثمار بعينها، فيقولون هذا تكرّر النّوع، وإذا اعترض أحد بأنّ تلك الأوراق والاكمام والأثمار قد تلاشت ونزلت من عالم النّبات إلى عالم الجماد وأتت من عالم الجماد إلى عالم النّبات مرّة أخرى وإذاً فقد تكرّرت، فجوابه هو أنّ اكمام واثمار واوراق العام الماضي قد تلاشت وتحلّلت عناصرها المركبّة وتفرّقت في هذا الفضاء، ولم تتجمّع وتتركّب الأجزاء المركّب منها أوراق العام الماضي واكمامه وأثماره ولم تعد بعينها بعد تحليلها بل عادت النّوعيّة من تركيب العناصر الجديدة، وكذلك يتلاشى جسم الإنسان بعد التّحليل وتتفرّق أجزاؤه المركّبة، فلو فرضنا أنّ هذا الجسم عاد من عالم الجماد أو النّبات مرّة أخرى فليس هذا الجسم هو بعينه الأجزاء المركّب منها الإنسان السّابق، فتلك العناصر تحلّلت وتفرّقت وانتشرت في هذا الفضاء الواسع، ثم تركّبت من العناصر أجزاء أخرى وصار جسماً ثانياً، وربّما يدخل جزء من أجزاء الإنسان السّابق في تركيب الإنسان اللاّحق، اما تلك الأجزاء بتمامها وعينها بدون زيادة ولا نقصان فليست محفوظة ولا مصونة حتّى تتركّب مرّة أخرى فيوجد الإنسان اللاّحق من ذلك التّركيب والامتزاج وحتى يستدلّ من ذلك على أنّ هذا الجسم قد عاد بتمام أجزائه وصار الشّخص الأوّل هو الشّخص الثّاني وبناء عليه قد حصل التّكرّر، والرّوح بعينه كالجسم عاد وتكرّر وبعد الموت رجع إلى هذا العالم بذاته.
ولو نقول أنّ هذا التّناسخ هو للحصول على الكمال حتّى تكتسب المادّة صفاءها وتصير شفّافة فتظهر أشعة الرّوح فيها بمنتهى الكمال، فهذا تصوّر محض أيضاً، لأنّه على فرض التّسليم بهذا في التجدد والعود،فلا يمكن تغيير الماهية لأنّ جوهر النّقص لا يصل إلى حقيقة الكمال بالرّجوع والعود، ولا يصير الظّلام الصّرف بالعود والرّجوع مصدر النّور، ولا تصير حقيقة العجز قدرة وقوّة بالرّجعة، ولا تكون الماهيّة النّاسوتيّة حقيقة ملكوتيّة بالعودة والرّجوع، وشجرة الزّقّوم مهما تكرّرت لا تعطي ثمراً حلواً، و لا تثمر الشّجرة الطّيّبة مهما عادت فاكهة مرّة، إذاً صار من المعلوم  أنّ تكرار الرّجوع إلى عالم النّاسوت لا يورث الكمال، وليس لهذا التّصوّر برهان ولا دليل فهو عبارة عن أفكار وأوهام، بل مدار حصول الكمال في الحقيقة هو فيض الخالق. وحضرات الثّيوسفيّين يعتقدون أنّ الإنسان يرجع ويعود في قوس الصّعود كرّات ومرّات حتّى يصل إلى المركز الأعلى، وفي ذلك المقام تصير المادّة كالمرآة الصّافية وتسطع فيها أنوار الرّوح بنهايّة القوّة ويحصل الكمال الذّاتيّ، والحال أنّه من المسلّم لدى المدقّقين في المسائل الإلهيّة أنّ العوالم الجسمانيّة تنتهي بنهاية قوس النّزول، وأنّ مقام الإنسان نهاية قوس النّزول وبداية قوس الصّعود المقابل للمركز الأعلى، وأنّ قوس الصّعود من بدايته إلى نهايته مراتب روحانيّة، ويعبّرون عن قوس النّزول بالإبداع وعن قوس الصّعود بالاختراع، وينتهي قوس النّزول بالجسمانيّات وقوس الصّعود بالرّوحانيّات، فرأس البرجار لا يرجع القهقرى عند رسم الدّائرة والا اختل نظام الدّائرة لأنّ ذلك ينافي الحركة الطّبيعيّة والنّظم الإلهيّة ، وفضلاً عن هذا فإنّه ليس للعالم النّاسوتي قدر ولا ميزّة حتّى يتمنّى الإنسان بعد نجاته من هذا القفص أن يقع في هذا الشّرك مرّة أخرى، بل إنّما يظهر استعداد الإنسان وقابليّته بالسّير في مراتب الوجود بالفيض الأبديّ لا بالتّكرّر والرّجوع، فكلّ ما كمن في هذا الصّدف سواء أكان من الدّرّ أو الخزف يظهر للعيان عندما يفتح فاه مرّة واحدة، وهذا النّبات عندما ينبت مرّة إمّا أن يأتي بشوك أو ورد ولا حاجة إلى أن ينبت مرّة أخرى، وفضلاً عن هذا فإنّ السّير والحركة في العوالم على خطّ مستقيم طبق النّظم الطّبيعيّة هما سبب الوجود وأمّا الحركة المنافية للنّظم والوضع الطّبيعيّ فهي سبب العدم، ورجوع الرّوح بعد الصّعود مناف للحركة الطّبيعيّة ومخالف للنّظم الإلهيّة، لهذا فحصول الوجود بالرّجوع ممتنع محال، مثله كمثل الإنسان الّذي يرجع إلى عالم الرّحم مرّة أخرى بعد خلاصه منه.
انظروا ما أوهى تصوّرات أهل التّناسخ والتّواسخ، يحسبون الجسم ظرفاً والرّوح مظروفاً، كالماء في الكأس يفرغ من كأس ويعود في كأس آخر، فهذا التّصوّر ملعبة صبيانيّة وكيف انهم لم يلاحظوا أنّ الرّوح من المجرّدات ليس لها دخول ولا خروج، وغاية ما هنالك أنّ لها تعلّقاً بالجسد كتعلّق الشّمس بالمرآة، فلو أنّ الرّوح تقطع مراتبها وتحصل على الكمال الذّاتيّ بتكرّر رجوعها إلى العالم الجسمانيّ لكان الأولى لها أن يمدّ الله حياتها في العالم الجسمانيّ حتّى تكتسب الكمالات والفيوضات ولا لزوم لإذاقتها كأس الهلاك وحصول الحياة الثّانية.
واصل هذه الفكرة ناشئ من بعض التّناسخيّين الّذين تصوّروا أنّ الوجود قاصر على هذا العالم الفاني وأنكروا العوالم الإلهيّة، بينما العوالم الإلهيّة لا تتناهى، فلو أنّ العوالم الإلهيّة تنتهي بهذا العالم الجسمانيّ لكان الإيجاد عبثاً بل لصار الوجود ملعبة صبيانيّة، إذ تكون نتيجة هذه الكائنات الّتي لا تتناهى وجود الإنسان الكامل، وهو أيضاً يأتي ويذهب أيّاماً معدودة في هذه الدّار الفانية لينال المكافأة فيكمل الكلّ في النّهاية وينتهي الإيجاد الإلهيّ وتنتهي وتكمل الكائنات الموجودة الّتي لا تتناهى حينئذ تتعطّل الألوهيّة الرّبانيّة ولا يكون لها ولا للأسماء والصّفات الإلهيّة تأثير في هذه الكائنات الرّوحيّة الموجودة "سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون"[i]، وهكذا كانت العقول القاصرة عقول فلاسفة السّلف مثل بطلميوس وغيره من الّذين كانوا يعتقدون ويتصوّرون أنّ العالم والحياة والوجود محصور في هذه الكرة الأرضيّة ووجود الفضاء الذي لا يتناهى محصور في طبقات السّموات التّسع وكلّها فارغة خاليّة.
فانظروا إلى أيّ درجة كانت أفكارهم محدودة وعقولهم ضعيفة، والآن يظنّ التّناسخيّون أيضاً أنّ العوالم الإلهيّة محصورة في عوالم التّصوّر الإنسانيّ، بل إنّ بعض التّناسخيّين كالدّروز والنّصيريّة يتصوّرون أنّ الوجود محصور في هذا العالم الجسمانيّ، فما هذا التّصوّر الجاهليّ؟ مع أنّ العالم الجسمانيّ في هذا الكون الإلهيّ الّذي يبدو في نهاية الجمال والعظمة والكمال فيه الأجرام النّورانيّة التي لا تتناهى، فيجب إذاً أن نمعن النّظر في العوالم الرّوحانيّة الإلهيّة التي هي أصل الأساس لنعرف إلى أيّ درجة هي غير محدودة وغير متناهيّة (فاعتبروا يا أولي الأبصار).
ولنرجع إلى موضوعنا أنّ الرّجعة مذكورة في الكتب المقدّسة والصّحف الإلهيّة، ولكنّ الجاهلين لم يهتدوا إلى معانيها وظنّوا أنّها التّناسخ، لأنه ليس مقصود أنبياء الله من الرّجعة رجوع الذّات بل رجوع الصّفات، يعني ليس رجوع المظهر بل رجوع الكمالات، ففي الإنجيل يقول( أنّ يحيى بن زكريا هو حضرة إيليّا)، فليس المراد من هذا البيان رجوع النّفس النّاطقة وشخصيّة حضرة إيليّا في جسد حضرة يحيى، بل المراد أنّ كمالات حضرة إيليّا وصفاته تجلّت وظهرت في حضرة يحيى،ومثلا: بالأمس كان في هذا المحفل سراج مضيء، فإذا أوقدنا في اللّيلة القادمة سراجاً آخر فإنّا نقول قد أضاء سراج الأمس، وكذلك الماء الذي كان يجري من ينبوع ثم انقطع فإنّه حينما يجري مرّة أخرى فإنّا نقول عنه في جريانه الثّاني أنّ هذا الماء هو عين ذلك الماء وقد جرى مرّة أخرى، وهذا السّراج بعينه هو ذلك السّراج، وكذلك في الرّبيع الماضي تفتّح الورد وأينعت الأزهار والرّياحين وكانت فيه الفواكه اللّذيذة الطّعم، فإذا جاء الرّبيع القادم فإنّا نقول قد رجع ذلك الورد وعادت تلك الأزهار والرّياحين وظهرت تلك الفواكه اللّذيذة، وليس المقصود من هذا البيان أنّ الأجزاء التي تركّب منها الورد في العام الماضي تركّبت بعينها بعد التّحليل مرّة أخرى وعادت ورجعت، بل المراد هو أنّ تلك اللّطافة والملاحة واللّون البديع والرّائحة الطّيبة الّتي كانت في ورد العام الماضي قد صارت موجودة واضحة مشهودة بعينها في ورد هذا العام.
والخلاصة أنّ المقصود هو التّشابه والتّماثل بين هذا الورد وذاك الورد، وهذه هي الرّجعة المذكورة في الصّحف الإلهيّة، وهذا المعنى مفصّل مشروح بالقلم الأعلى[ii] في كتاب الإيقان فارجعوا إليه حتّى تطّلعوا على حقائق الأسرار الإلهيّة وعليك التّحيّة والثّناء.(مفاوضات عبد البهاء)






Saturday, February 21, 2015

صدر الآن 12/2/2015 مقالي "هل الفكر الجديد أمر سهل أم أنّه تَحُفّه مجموعة من الصعاب والعوائق؟3-4"


هل الفكر الجديد أمر سهل أم أنّه تَحُفّه مجموعة من الصعاب والعوائق؟3-4 

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=456269


Sunday, February 15, 2015

صدر الآن 15/2/2015 مقالي هل الفكر الجديد أمر سهل أم أنّه تَحُفّه مجموعة من الصعاب والعوائق؟2-4-


 هل الفكر الجديد أمر سهل أم أنّه تَحُفّه مجموعة من الصعاب والعوائق؟2-4 

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=455411

Thursday, February 5, 2015

صدر لي الآن 5/2/2015 مقال عالم الذَّر


عالم الذَّر 

https://randaelhamamsy.wordpress.com/2015/02/05/%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%B1/

قامت القيامة................آتت الساعة فماذا تنتظرون!؟


 قامت القيامة................آتت الساعة

فماذا تنتظرون!؟


أنّ أتباع كل رسالة دينية قد ورثوا الاعتقاد بأن رسالتهم آخر الرسالات الإلهية، وبها انقطع الوحي، فهم لا يتوقعون أي رسالات إلهية من بعد رسولهم، وكثير منهم - تحت تأثير هذا الاعتقاد - يقرأون النبوءات التي تخبر بظهور رسالة جديدة قراءة سطحية، عمادها تفسير الآيات التي تحوي رموزاً ومجازاً على أنَّ معانيها عين ما تدلّ عليه ألفاظها مع استبعاد الاحتمال أن يكون لها معان أخرى. من ذلك ما ورد في الكتب السماوية والأحاديث النبوية عن آخر الزمان والنبوءات التي تخبر عن القيامة، والساعة، ونفخ الصُّورِ، والصيحة، وما ماثلها. والقليل من الناس - بل وأقل من القليل - هم الذين يتفكرون في المقصود من نفخ الصور، أو ما هي تلك الصيحة التي تصل إلى أسماع العالم بأسره، أو كيف يتزامن مجيء المهدي ونزول عيسى مع انشقاق السماء، وتكوّر الشمس، وانطفاء شعاعها، وتساقط النجوم على الأرض، وتزلزل الأرض، ونسف الجبال نسفاً.
ولا شك أن في هذه الآيات ما يدعو إلى المزيد من التفكير المتأمّل لفهم معانيها، لأن في تكوّر الشمس وانشقاق السماء وسقوط النجوم على الأرض مثلا نهاية محققة للحياة على وجه الأرض، بل فناء الأرض ذاتها. بينما هذه الآيات نفسها تجزم في الوقت نفسه بمجيء مبعوثين من الله في ذلك الوقت، وبعث الموتى إلى الحياة، ونشر العدل، والقضاء على الظلم، وإعمار الأرض وإصلاحها من جديد، وإشراق الأرض بنور ربها.
ولعل من الجدير بالمرء أن يتساءل - لو أخذنا معاني هذه الآيات على ظاهر لفظها - لماذا يدمّر الله العمار الذي أقامه على هذا القدر من التنظيم والإبداع؟ ألا يمكن حساب الناس على ما كسبت أيديهم بدون هذه الكوارث التي لا علاقة لها بالحساب؟ وليس المقصد من إثارة هذه التساؤلات التشكيك فيما جاء في الكتب السماوية، بل التأمل فيها بغية استخلاص مراد الله منها. فكل هذه الأيات التي اعتبرها الجانب الأكبر من المفسّرين محكمات وواضحة الدلالة، هي في الواقع متشابهات أشكل فهمها على الناس لأنّها في الظاهر متناقضة، وغير مقبولة عقلاً، فلا بد من أن تكون لها معان أعمق مما ذهب إليها المفسرون في السابق.
فالناس جميعا يتحدثون عن يوم موعود، عن الساعة، عن القيامة، ويتحدثون عن ويلاتها وأهوالها، وكل هذه أوصاف وردت لها فعلاً، ولكن ما معناها؟ الصور المتعدّدة التي تذكرها الكتب المقدّسة - وخاصة القرآن والإنجيل - تبعث الحيرة إذا أخذت معانيها على ظاهر ألفاظها، وأُغفل ما تنطوي عليه من مدلولات، ففي صورة يأخذنا الهلع من المصير المفزع الذي ترسمه وفي صورة أخرى نرى مصيراً متألقاً بأنوار الرحمة الكبرى.
والقرآن الكريم يعرض صوراً متباينة لأحداث القيامة على نحو ملحوظ بحيث تحتل مكاناً هاماً من انتباه القارئ. وترسم إحدى هذه الصّور المصير المفزع الرهيب الذي ينتظر الناس في اليوم الموعود: "إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ"١، "وَانْشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ"٢ وكذلك: "إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ"٣ و"إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَسًّا فَكَانَت هَبَاءً مُنْبَثًّا"٤، و"إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا"٥ وغير ذلك من أوصاف من قبيل: يوم العذاب، ويوم الحسرة، ويوم الحساب، ويوم العقاب، ويوم الخزي، ويوم التّغابن. ويصف القرآن الكريم حالة الناس في ذلك اليوم الرهيب: "إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيءٌ عَظِيمٌ يَومَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَملٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ"٦ "فَإِذا جَآءَتِ الصَّاخَّةُ يَومَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيْهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيْهِ وصَاحِبَتِهِ وَبَنِيْهِ"٧.
ويرسم القرآن صّورة ثانية للقيامة تفيض بالرحمة وتشرق بالبشارة الكبرى وتغرّد على أفنانها ورقاء السماء بأناشيد البهجة والمصير المشرق: "يَومَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً"٨، وقوله أيضاً: "وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا"٩، وكذلك: "هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُم اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ وَالمَلاَئِكَةُ وقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ"١٠، و"يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ"١١، "وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا"١٢.
فإذا قصرنا فهمنا على مدلول ألفاظ هذه الآيات ومعانيها الظاهرة انتهينا إلى نتائج لا يقبلها العقل، فالانقلابات الكليّة المذكورة لو حدثت لن تترك فرصة لإنسان حتى يفرّ من أخيه وأمّه وأبيه، ولا للمرضع لتذهل عمّا أرضعت، ولا للإنسان أن يكون سكراناً وما هو بسكران. فماذا يكون حال الإنسان إذا السماء انشقّت، والأرض رُجّت، والجبال نُسفت، والشمس كُوّرت، والكواكب انكدرت، والبحور سُجّرت إلى آخره؟ هل يمكن تصوّر بقاء كائن حيّ بعد حصول هذه الانقلابات؟
ومع ذلك نصّ كتاب الله لا يترك مجالاً للشك في استمرار وجود الناس على قيد الحياة رغم ورود كل هذه الانقلابات الخطيرة. إذاً فمن المعقول أن تكون هذه الأوصاف قد وردت على سبيل التمثيل والتشبيه مشيرة إلى أمر عظيم بظهوره تحدث كل تلك الانقلابات بصورة معنوية. وهل هناك أمر أعظم من الوعد بورود الله، ولقاء العباد به تعالى؟
ولكن علّمنا رسل الله أنه سبحانه منزّه عن خصائص الأجسام وصفاتها وأنه أعظم من أن يحدّ ذاتَه حيّز أو مكان. إنّه غيب منيع يصفه حضرة بهاءالله بقوله عزّ بيانه: "إنّ غيب الهُويّة وذات الأحديّة كان مقدّساً عن البروز والظهور والصعود والنزول والدخول والخروج، ومتعالياً عن وصف كل واصف وإدراك كل مدرك، لم يزل كان غنياً بذاته، ولا يزال يكون مستوراً عن الأبصار والأنظار بكينونته، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير"١٣.
ألا يكفي هذا للاقتناع بأن معاني هذه الآيات غير ما يدلّ عليه ظاهر لفظها؟ وهل هناك طريق آخر غير المجاز لفهم هذه الآيات المباركة على نحو يقبله العقل؟ ألا يمكن أن نقبل معنى مجيء الله على أنه مجيء مبعوث من الله في يوم موعود موسوم بهذا الاسم المقدّس العزيز المنيع؟ ألا تتحقق بواسطة هؤلاء المبعوثين معرفة الله والقرب منه ولقاؤه، وبدونهم يكون الطريق مسدوداً والطلب مردوداً؟
وهناك صورة أخرى يعرضها القرآن الكريم عن القيامة والساعة تعتبر بحقّ مفتاحاً لما أغلق فهمه على الأذهان، وتعين المتأمل فيها على إدراك معان أبعد وأعمق مما يقول به القانع بظاهر لفظها، وهي بذاتها تكفي للإقناع بأن معانيها - ما لم تؤخذ على المجاز - لا سبيل إلى فهمها إلاّ بقدر ما يفقه الطفل من أسرار الحياة.
قال تعالى: "أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُم غَاشِيَةٌ مِن عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ"١٤، وقال تعالى: "وَأَنْذِرْهُم يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُم فِي غَفْلَةٍ وَهُم لاَ يُؤْمِنُونَ"١٥ وقال أيضاً: "يَومَ القِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِنْ نَاصِرِينَ"١٦. والسؤال كيف يمكن أن يحدث في يوم القيامة انشقاق السماء، وتكور الشمس، وسقوط النجوم، مع غفلة الناس عن وقوعها وعدم شعورهم بهذه الأحداث المهولة؟
وهل من المعقول أن يُكَفِّرَ الناس بعضهم البعض ويلعن بعضهم بعضا بينما الأرض تتزلزل وأحداث الساعة تهزّ كل ذرّة من ذرّات وجودهم؟ وهل يمكن أن يوجد مجال - وسط تلك الأحداث الهائلة - لاستمرار السب واللعن؟ ولنتفكّر في قوله تعالى: "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَالإِيْمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ البَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ البَعْثِ وَلَكِنَّكُم كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ"١٧. فهل يمكن عقلاً أن يقع انشقاق السماء، وتكور الشمس، وسقوط النجوم، بمعانيها الحقيقية والناس في غفلة من هذه الأمور المهولة؟ فلا مناص إذاً من حمل هذه الألفاظ على معان معنوية وروحانية تسمح بوقوع الزلزلة والرّجفة والناس عنها في غفلة وعلى غير علم.
وهناك صورة أخرى ليوم القيامة. فقد رأينا للقيامة صورة فيها تنشق السماء، والأرض ترتج وتتزلزل، والجبال تُنسف وتُقلع، والشمس تتكوّر وتظلم، والكواكب تـنـتثر وتسقط. وصورة ثانية فيها جلال مجيء الربّ وملائكته، وورود الله، وتبديل الأرض والسموات، وإشراق الأرض بنور ربّها. وصورة ثالثة فيها جدال ونزاع بين الناس حتى يُكفّر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً.
وها هي صورة رابعة تقدّم لنا القيامة في نفختين متتابعتين - نفخة تُصعق كل من في السموات والأرض إلاّ من يشاء الله، وتتبعها نفخة يقوم بها الناس وتشرق الأرض بنور ربّها ويجري الحساب ويتم الثواب والعقاب على هذه الأرض، كما قال تعالى: "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصُعِقَ مَنْ فِي السَّمَواتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَ مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيْهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوَضِعَ الكِتَابُ وَجِاءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ"١٨.
فالآية تشير إلى كتاب وقضاء بين الناس بالحقّ. فإذا قيل بأنّ الكتاب المقصود هو القرآن الكريم، فإنّ القرآن الكريم والإنجيل والتوراة كانت موجودة وقت نزول هذه الآية الكريمة، ولكنها مع ذلك تشير إلى كتاب يأتي بعد النفخ في الصُّورِ مرتين، وبعد انصعاق من في السموات والأرض وقيامهم مرة أخرى، وبعد إشراق الأرض بنور ربها. فلا بد أن يكون الكتاب المشار إليه كتاب آخر غير القرآن والانجيل والتوراة.
ويشير سبحانه وتعالى في موضع آخر من كتابه العزيز إلى أنّ الخلود في الجنة والنار خلود دائم بدوام السموات والأرض، مما يؤكد أن السموات والأرض باقيتان بعد الحساب. فقد قال تعالى عن يوم القيامة: "يَومَ يَأْتِ لاَ تَكَلََّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُم شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُم فِيْهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فَيْهَا مَا دَامَتِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيْهَا مَا دَامَتِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ"١٩. وهذا تأكيد بدوام الأرض والسماء أثناء قيام الساعة وبعدها، الأمر الذي يناقض تكوّر الشمس، وانشقاق السماء، وزلزلة الأرض، ودكّ الجبال إذا حملنا هذه الألفاظ على معانيها الظاهرة.
والخلاصة أن هذه الآيات المباركة وكثير غيرها، هي آيات متشابهات ظلّت طوال الأجيال الماضية مختومة بخاتم المسك حتى جاء حضرة بهاءالله وفضّ ختمها بإصبع إرادة الله، وكانت من قَبلِهِ غامضة. وزادها غموضاً ما جرت به أقلام القوم من شروح وتعليقات. فظهور حضرة بهاءالله كان الصُّورُ الذي نفخ روح الحياة من جديد في هيكل الوجود كما سيأتي تفصيلاً فيما بعد عند الحديث عن رسالة حضرة بهاءالله.
ولنحاول الآن فهم هذه الآيات على نحو مختلف. فقد قدمت سورة يونس أحد مفاتيح سرّ القيامة قَلَّما انصرف إليه انتباه الناس، وذلك في قوله تعالى: "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفَعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُم فَلاَ يَسْتَئْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ"٢٠، وهذا نص صريح يُقِرنُ قيام الساعة والبعث بانتهاء أجل الأُمّة، ويحدد لكل أمة أجلاً إذا حان أجلها حان أيضاً حسابها. فكأن للأمم آجالاً كما أن للأفراد آجالاً، وكذلك للأمم حساب كما أن للأفراد حساباً. فالأمم جموع من الأفراد. وحساب كل أُمّة يحين بحلول أجلها. ويروي القرآن الكريم أمثلة لحساب الأمم السابقة عندما حانت آجالها وتم حسابها، ولهذا يجب علينا أن نراجع أنفسنا ونتفكّر مليّاً في المراد من علامات الساعة. وعلينا في خلال هذا البحث أن نستلهم الجواب ونعتمد في فهم هذا اليوم على نور نصوص كتاب الله، لا على ما ورثناه من روايات وأقاويل ما أنزل الله بها من سلطان.
١. حدثـتنا سورة هود عن رسالة نوح والطوفان الذي حلّ بقومه جزاء إعراضهم واستكبارهم، ولم ينج منهم إلاّ الذين صدّقوا برسالته، وأطاعوا أمر الله واعتصموا برحمته: "فَقَالَ المَلأُ الّذينَ كَفَرُوا مِنْ قَومِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنَا بِادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُم عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُم كَاذِبينَ"٢١ واستمر القوم في غرورهم واستكبارهم: "حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيْهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَينِ اثْنَينِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَولُ وَمَنْ ءَامَنَ وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيْلٌ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيْهَا بِاسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِم فِي مَوجٍ كَالجِبَالِ"٢٢.
٢. وحدثـتنا أيضاً عن قوم هود: "وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ "٢٣.
٣. وحدثـتنا السورة نفسها عن قوم صالح: "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ"٢٤.
٤. كما حدثـتنا أيضاً عن قوم إبراهيم: "إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ ءَاتِيْهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ"٥٢.
٥. وحدثـتنا عن قوم لوط: "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيْهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سَجِّيْلٍ مَنْضُودٍ"٢٦.
٦. وحدثـتنا عن قوم شعيب: "وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ"٢٧.
٧. ثم حدثـتنا عن قوم ثمود: "كَأَنْ لَمْ يَغْنَوا فِيْهَا أَلاَ بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ"٨٢.
٨. وجاء في سورة الحاقة: "كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِم سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى القَومَ فِيْهَا صَرْعَى كَأَنَّهُم أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِنْ بَاقِيَةٍ"٢٩.
وما نستخلصه من هذه الأخبار أَنَّ من نتائج الحساب فناء المستكبرين المكذبين بحيث "لاَ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ"، واستمرار الحياة بالمؤمنين ودوامها بدوام أسماء الله وصفاته العليا، كما استمرّت الحياة ودامت بعد انقضاء الأمم الغابرة.
ونستخلص من جهة أخرى، أن القارعة والحاقّة والصيحة والصاخّة ويوم الحشر وغيرها، جميعها مترادفات ذات مدلول واحد عام، وآثار واحدة عامّة، وهي التفاعل الحتمي الذي يحدث عند دعوة كل رسول إلهي مع الأُمّة أو الأمم التي بُعث إليها. فالدعوة في ذاتها صيحة هائلة ترجّ الأفكار رجّاً، وتهتز من شدتها الشرائع القائمة اهتزازاً، وتتزلزل من وقعها الأوضاع السائدة زلزلة شديدة، فتورد المعارضين والمستكبرين المهالك، وتقرع المبطلين، ويحقّ القول على المكذّبين المتمادين في غيّهم وأهوائهم. ثم تخلق خلقاً جديداً ليسعى في هدى النور الجديد.
والحقيقة واحدة لا تتعدّد بتعدّد الأسماء، فالمعنى واحد بين القارعة والحاقّة والصيحة والصاخة والقيامة والنبأ العظيم وأمثالها، وبين "أمر الله" و"الحساب". إذ إنّ كل هذه التعبيرات تصدق في اليوم الذي يرتفع فيه نداء الرسول الإلهي أيّا كان ذلك اليوم. ويخاطب الله العالم في شخص الأمة الإسلامية ليبلّغهم أن الحساب قريب لا ريب فيه، رغم انصراف الناس عنه وعدم تقديرهم لنتائجه الحاسمة، فكل ما عدا النداء الإلهي في نظر الله لعب وعبث لا خير فيه ولا دوام له. فقال تعالى: "مَا يَأْتِيْهِم مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِم مُحْدَثٍ إِلاَ اسْتَمَعُوهُ وَهُم يَلْعَبُونَ"٣٠، والذّكر هنا معناه الكتاب. فقوله تعالى "ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِم مُّحْدَثٍ" يعني كتاب من الله جديد، ومجدّد لشريعته. ومعنى نزول الكتاب الجديد هو انتهاء أجل أمّة ونهاية دور وبداية آخر مصداقاً لقوله تعالى: "وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوماً ءَاخَرِينَ"٣١.
والخلاصة: أنّ هلاك الأمم السابقة جزاء إعراضهم واستكبارهم - الذي فصّلته سورة هود - أمر ثابت في الكتاب. والأمة الإسلامية كغيرها من الأمم تجري عليها سنّة الله كما جرت على الأمم السابقة، فهي عند ظهور المهدي ونزول عيسى روح الله ستواجه الامتحان نفسه الذي ابتليت به الأمم السابقة. ثم تنقضي نشأة، وتبدأ نشأة أخرى، ويأتي الله بخلق جديد. وقد نبّه الرسول الأمين أمّـته أَنَّ مَثَلَها مَثَلُ غيرها من الأمم السابقة، تخضع لسنّة الله التي لا تتغيّر ولا تتبدّل فقال: "لَتَسلُكَنَّ سُبُلَ مَن قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى إذا دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه. قالوا: "والنصارى واليهود يا رسول الله؟ قال: ومَن؟"٣٢ ومنه نفهم أن الحساب الذي قدّمته الأمم السابقة لا بد واقع أيضاً للأمة الإسلامية. 
===========

المراجع 

١. سورة الانشقاق، آية ١ 

٢. سورة الحاقة، آية ١٦ 

٣. سورة التكرير، آية ١ و ٢ 
٤. سورة الواقعة، آية ٤-٦ 
٥. سورة الزلزلة، آية ١ و ٢ 
٦. سورة الحج، آية ١ و ٢ 
٧. سورة عبس، آية ٣٣-٣٦ 
٨. سورة النبأ، آية ٣٨ 
٩. سورة الفجر، آية ٢٢ 
١٠. سورة البقرة، آية ٢١٠ 
١١. سورة آبراهيم، آية ٤٨ 
١٢. سورة الزمر، آية ٦٩ 
١٣. بهاء الله، كتاب الإيقان (ريو دي جانيرو، دار النشر البهائية في البرازيل، ط ٣) ص ٧٥-٧٦ 
١٤. سورة يوسف، آية ١٠٧ 
١٥. سورة مريم، آية ٣٩ 
١٦. سورة العنكبوت، آية ٢٥ 
١٧. سورة الروم، آية ٥٥ و ٥٦ 
١٨. سورة الزمر، آية ٦٨ و ٦٩ 
١٩. سورة هود، آية ١٠٥-١٠٨ 
٢٠. سورة يونس، آية ٤٨ و ٤٩ 
٢١. سورة هود، آية ٢٧ 
٢٢. سورة هود، آية ٤٠-٤٢ 
٢٣. سورة هود، آية ٥٨ 
٢٤. سورة هود، آية ٦٦ و ٦٧ 
٢٥. سورة هود، آيه ٧٦ 
٢٦. سورة هود، آية ٨٢ 
٢٧. سورة هود، آيه ٩٤ 
٢٨. سورة هود، آية ٩٥ 
٢٩. سورة الحاقة، آية ٤-٨ 
٣٠. سورة الأنبياء، آية ٢ 
٣١. سورة الأنبياء، آية ١١ 
٣٢. رواه بخاري 
Powered By Blogger