Thursday, May 26, 2016

رجوع الرب _ المجيء الثاني للمسيح




رجوع الرب _ المجيء الثاني للمسيح

تفضل المسيح له المجد
 " أنا أمضي لاعد لكم مكانًا. وإن مضيت وأعددت لكم مكانًا آتي أيضًا وآخذكم اليَّ حتى حيث أكون أنا تكونون انتم أيضًا "   (  يوحنا 14: 3 )                                                
 نقرأ في الفصل الأول من أعمال الرسل ان التلاميذ قيل لهم حين صعود المسيح " ان يسوع هذا نفسه الذي اُخذ من بينكم الى السماء سيرجع بنفس الكيفية التي رأيتموه فيها صاعدًا الى السماء " فمن أجل هذا ينتظر الكثير من المسيحيين ان ابن الانسان حينما سيأتي " على سحاب السماء بقوة ومجد عظيم" سيرون في هيئة جسده نفس يسوع الذي كان يمشي في شوارع أورشليم قبل ألفي سنة. وقد كانت هذه الفكرة نفسها موجودة عند اليهود في عهد المسيح فيما يخص رجعة ايليا لكن يسوع أوضح خطأهم وبيّن أن النبوة القائلة " بأن ايليا يجب أن يأتي أولاً" قد تحققت لا برجوع جسم ايليا الأول بل في شخص يوحنا المعمدان الذي جاء " بنفس روح وقوة ايليا" فرجوع ايليا في زمن المسيح ورجوعه حين مجيئه في العصر الحاضر يعني ظهور شخص آخر مولود من أبوين آخرين لكنه ملهم من الله بنفس الروح وبنفس القوة وهكذا الأمر في رجوع المسيح له المجد اذ سيتحقق رجوعه بظهور شخص آخر بجسم بشري يرى فيه نفس روح الله وترى فيه ذات القوة الربانية دون أدنى تباين أو اختلاف.
يوحنا 10 : 17 : " لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضًا.
            18 : " ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا. هذه الوصية قبلتها من أبي".
          ويوضح حضرة بهاء الله ان رجوع حضرة المسيح قد تحقق بمجيء ذاته نفسه بعد مجيء مبشره حضرة الباب فتفضل :" مثل ذلك مثل الشمس فاذا قالت شمس اليوم انني أنا شمس الأمس فهي صادقة ولو قالت انني غيرها نظرًا لاختلاف الايام فهي صادقة أيضًا وكذلك لو نظرنا الى الايام وقلنا انها جميعها شيء واحد فان هذا القول يكون صحيحًا وصادقًا واذا قلنا انها غيرها من حيث تحديد الاسم والرسم فان ذلك أيضًا يكون صحيحًا وصادقًا. اذ بينما نلاحظ انها شيء واحد فانه مع ذلك يلاحظ ان كلا منها له اسم خاص وخواص أخرى ورسم معين لا يرى في غيرها. فأدرك بهذا البيان وهذه القاعدة مقامات التفصيل والفرق والاتحاد بين المظاهر القدسية حتى تعرف وتقف على مرامي الاشارات في كلمات مبدع الاسماء والصفات وفي مقامات الجمع والفرق بينها وتطلع تمامًا على جواب سؤالك في سر اتخاذ ذاك الجمال الأزلي لنفسه في كل مقام اسمًا خاصًا ورسمًا مخصوصًا" (من كتاب الإيقان ص 17 :18)
    ولقد وعدتنا النبوات ان ايام فهم النبوات ستبدأ بعد مجيء الرب فيزداد الفهم من ذلك العهد فصاعدًا. والنبوات التي تشير الى " وقت النهاية" و"الأيام الأخيرة" و"مجيء رب الجنود" و
" الأب الأبدي" لا تشير الى مجيء يسوع المسيح بل الى مجيء الآب وفي الأيام الأخيرة يكون المسيح والآب كلاهما شيئًا واحدًا. وقد صرح المسيح له المجد متفضلاً " أنا وأبي كلانا واحد ".
أعمال 3 : 19 : " تأتي أوقات الفرج من وجه الرب
           20 : ويرسل يسوع المسيح المبشر به لكم قبل
           21 : الذي ينبغي ان السماء تقبله الى أزمنة رد كل شيء التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر".
  فعبارة " وقت الفرج " تدلنا بكل وضوح على أن تلاميذ حضرة المسيح كانوا عارفين بمجيء مظهر الهي مقتدر غير حضرة المسيح وذلك في الظهور الذي سيعقب العصر المسيحي " ليرد جميع الأشياء" " بعد أن تتم أزمنة الأمم".
أعمال 15: 14: " سمعان قد أخبر كيف افتقد الله أولاً الامم ليأخذ منهم شعبًا على اسمه
15:   وهذا توافقه أقوال الانبياء كما هو مكتوب
            16:   وسأرجع بعذ هذا وأبني أيضًا خيمة داود الساقطة وأبني أيضًا ردمها وأقيمها ثانية.
           17:  لكي يطلب الباقون من الناس الرب وجميع الامم الين دعى إسمي عليهم يقول الرب الصانع هذا كله".
   ومجيء الرب في المرة الثانية هو لتعليمنا كل الاشياء بمقياس أوسع من قبل وليعيد لذاكرتنا تعاليم المسيح وليتبع شتات الخلق ربهم الذين تخلفوا عن عرفانه.
   ولقد تقدمت في الوقت الحاضر طوائف متعددة وفلاسفة كثيرون يحملون بيدهم نظرية ألوهية الانسان واعتباره منبعًا للنور في هذا العالم وهم يؤمنون بأن القوة والمقدرة البشرية كافية لحل المشاكل البشرية ولا حاجة الى ظهور الهي في هيكل بشري. وهذه النظرية القائلة بكفاءة الانسان للوصول الى أسمى مدارج الكمال والحكمة والروحانية والحب بدون الحاجة الى مساعدة نبي الهي قد انتشرت انتشارًا واسعًا. والملحدون وبعض من يدعي التدين ينكرون أن الله قد أرسل رسلاً آلهيين الى البشر كما لا يعتقدون بأنه قادر على تأسيس ملكوت جديد على الأرض وبعث خلق جديد. ولأجل أن لا يكون هناك شك حول مجيء الآب السماوي الى الأرض بسلطة روحانية يحاكم بها الأرض ويؤسس ملكوته قصّ لنا المسيح له المجد هذه القصة مشيرًا الى المقصد الحقيقي من مجيئه نفسه:
متى 21:  33 : " اسمعوا مثلاً آخر : كان انسان رب بيت غرس كرمًا وأحاطه بسياج وحفر فيه معصرة وبنى برجًا وسلمه الى كرامين وسافر.
           34 :   ولما قرب وقت الاثمار ارسل عبيده الى الكرّامين ليأخذ اثماره
           35 :    فأخذ الكرّامون عبيده وجلدوا بعضًا وقتلوا بعضًا ورجموا بعضًا
           36 :    ثم أرسل أيضًا عبيدًا آخرين أكثر من الأولين ففعلوا بهم كذلك
           37 :    فأخيرًا أرسل اليهم ابنه قائلاً : يهابون ابني  
           38 :   وأما الكرّامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث هلموا نقتله ونأخذ ميراثه.
           39:    فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه.
           40:    فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفغل باولئك الكرامين.
           41:    قالوا له أولئك الأردياء يهلكهم هلاكًا رَديَّاً ويسلم الكرم الى كرّامين آخرين يعطونه الاثمار في أوقاتها.
           42:    قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب : الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية. من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا.       
           43: لذلك أقول لكم ان ملكوت الله ينزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره"
    ويلاحظ من الآية الأربعين أنه بعد قتل ابن صاحب الكرم سيأتي الرب نفسه عوضًا عن أن يرسل ابنه ليحاكم الكرامين فيأتي ومعه الثواب والعقاب.
    ولو أن البشر سيرفضون في البدء هذا الاساس المتين باعتباره حجر الزاوية لتشييد السلم وتأسيس ملكوت الله على الأرض لكنه مع هذا سيصبح رأسًا للزاوية.
    وكلمات التسلية والتطمين النازلة من قلم سلطان الكبرياء والبهاء نفسه تعلن بالتأكيد بأن الآب قد ظهر على الأرض كما سبقت بذلك النبوات فيتفضل:
  " يا كرمل ....... قولي أتى المكنون بسلطان غلب العالم وبنور ساطع به أشرقت الأرض وما عليها ...... اسرعي ثم طوفي مدينة الله التي نزلت من السماء وكعبة الله التي كانت مطاف المقربين والمخلصين والملائكة العالين" ويؤكد حضرته في مناسبة أخرى:
   " ان الطور يطوف حول مطلع الظهور والروح ينادي من الملكوت هلموا وتعالوا يا أبناء الغرور هذا يوم فيه سرع كوم الله شوقًا للقائه ........ قد أتى الوعد وظهر ما هو المكتوب في ألواح الله المتعالي العزيز المحبوب" وفي مناسبة أخرى يؤكد حضرته :" أنا الذي نطق لسان أشعيا بذكري وأنا الذي باسمه زينت التوراة والانجيل".
   اما أولئك الذين يؤمنون بأنه سوف يأتي بالروح لا بالجسد فان أرواحهم معارضة للمسيح كما يتفضل :
2 يوحنا : 7: " لأنه قد دخل الى العالم مضلون كثيرون لا يعترفون بيسوع المسيح آتيًا في الجسد . هذا هو المضل والضد للمسيح".
1 يوحنا 4: 1: " أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله. لأن أنبياء كذبة كثيرون قد أخرجوا الى العالم.
            2:   بهذا تعرفون روح الله. كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله.
            3:   وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح انه قد جاء في الجسد فليس من الله  وهذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي والآن هو في العالم ".    (ملكوت الآب السماوي) 


Wednesday, May 11, 2016

صدر الآن-أبدية الشريعة (5-7)- ” الـبـاب “



أبدية الشريعة  (5-7)-  ” الـبـاب “ 

https://randaelhamamsy.wordpress.com/2016/05/11/%D8%A3%D8%A8%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%B9%D8%A9-5-7-%D8%A7%D9%84%D9%80%D8%A8%D9%80%D8%A7%D8%A8/

نظرة على قصة سيدنا نوح وسفينته



نظرة على قصة سيدنا نوح وسفينته
لنتناول قصة سيدنا نوح(ع)  باسلوب جديد ونحاول مطابقتها مع ما يتقبله العقل والمنطق السليم، بعيداً عن ظواهر معاني كلماتها وما يتناقله الناس فيما بينهم من أفكار لا تتفق مع ما وصلت إليه البشرية من تطور وعلوم. وقد سبق وقلنا أن الكلام الإلهي لابد أن يتوافق مع العلم، فهما جناحين لطائر البشرية، بينما أحداث ورموز قصة النبي نوح(ع) لا تتفق مع العقل السليم وما زالت بحاجة الى استنباطات جديدة تخرجنا من مفاهيمها السطحية التي بقينا نتعامل معها بشكل بسيط لقرون طويلة.
لنعتبر السفينة التي كان يصلحها ويعمّرها سيدنا نوح، هي ليست من السفن العادية المكونة من خشب ومسامير وقير وقماش ودفة وأشرعة وسواري وملاحين وقبطان وغير ذلك. فإذا ابتعدنا عن هذه الفكرة المادية القديمة، نخرج بأحداث قصة أخرى مختلفة تماما، وإلا فبقية أحداث القصة القديمة وتفاصيلها المسلية التي يرويها الأهل والأجداد، تثير العجب والاستغراب، حيث يقال انه جمع في سفينته زوج من كل نوع من المخلوقات، ذكر وأنثى؛ ولا يخفى على أحد، كم تحتاج هذه العملية من وقت طويل قد يستغرق سنينا عديدة قبل تحقيقها، كما انها ليست بالعملية السهلة اليسيرة، والحيوانات بحاجة الى علف وغذاء وحراسة ورعاية، بل هي مستحيلة التحقق، إذ لا يمكن حجز جميع هذه المخلوقات وتجميعها في مكان محدد وسفينة واحدة وبينها وحوش كاسرة مفترسة وحيوانات أليفة، بينما سيدنا نوح دائم السفر والتجوال يتسلق الجبال ويخوض الوديان ويقطع الصحارى والغابات ويمخر عباب البحار ليصطاد ويجمع كل أنواع هذه الحيوانات. ثم انه بهذا العمل الشاق يكون مشغولا تماما عن هدفه الحقيقي الذي ظهر من أجله وأمره الله به، ألا وهو تبليغ أمر دينه للناس ودعوتهم للايمان به. فهو ليس صياداً للحيوانات والوحوش ولا رحالة أو مستشرق يعلم بأنواع الحيوانات وأصناف الطيور، بل نبياً يبحث عن طرائد العقول المنورة والقلوب السليمة.
من هذه الزاوية الجديدة، يمكن أن تكون قصة سفينة نوح المشهورة بين الناس، قصة إلهية مجازية عميقة المعاني، يراد بها شيء آخر، وليست سفينة عادية ركابها حيوانات وملاحيها مؤمنين وربانها نبي من عند الله.
لنفترض ان معنى السفينة هو (الديانة أو الشريعة)، ديانة وشريعة سيدنا نوح(ع)، ولنفترض أن عمله وجهده في إعمارها وبنائها وتشييد هيكلها، هو حركته الدائمة وانشغاله المستمر في تبليغ الناس أمره المبارك وتجميعهم للركوب على متنها، ولنفترض ان الأرض أو الأراضي التي كان يبني فوقها سفينته، هي أراضي قلوب الكفار والملحدين والمشركين بالله الواحد؛ وبمعنى آخر، هي أراضي قلوب قومه المترسخة فيها جذور أشجار العقـائد القديمة البالية وأعجاز نخيل إلحادهم بجذورها الممتدة في أعماق قلـوب آباءهم وأجدادهم منذ مئات السنين، وبيوت عقائدهم العتيقة المبنية من خيوط أوهامهم العنكبوتية.
فلقد حاول هذا النبي تعمير بناء سفينة دينه الحق بكل الوسائل الممكنة بين قومه وراح يبلّغ الناس الديانة الجديدة لعدة سنين ويدعوهم لركوبها، مرة بالمحبة والترغيب وأخرى بالتحذير والترهيب، تارة بالوعود الإلهية الجميلة، وحيناً بتذكيرهم بالدنيا وملذاتها الخادعة، وأخرى بالآخرة وحسناتها، وأحيانا بشرح فضائل الايمان بالله وشريعته الجديدة. لكن الفشل كان سمة جهود هذا النبي الملاح المتتالية؛ أما قومه، فبقوا على حالهم متمسكين بدينهم القديم دين آبائهم وأجدادهم ومتشبثين بالمعتقدات السائدة بينهم لا يقبلون تركها والانفكاك عنها (فالناس على ما جبلوا عليه)، وكانوا يضحكون ويسخرون من كثرة توسلاته ومناداته ومن إصراره على تعمير هذه السفينة الإلهية وترتيبها وتزيينها في عيونهم، وادعاءه انها المنقذ الوحيد لهم من فيضان ماء الانتقام الإلهي الجبار.
فلو افترضنا هذه الفرضية، لوجدنا تطابق أحداث هذه القصة القديمة مع العقل والمنطق السـليم بشكل أوفق، حيث ان دين الله لا يبنى الا على اليابسة وبين الناس وفي أرض مأهولة كما تصور ذلك الآيات الكريمة.
من هذه الفرضية - ولا نقول هذا التفسير - يتضح ان سفينة سيدنا نوح(ع)، هي في حقيقتها، سفينة دينه وشريعته، وان عملية بنائها وتشييد هيكلها، هي بمثابة مناداته وتبليغه للناس للايمان بهذا الدين وبناء مقوماته بينهم، وان دوافع سعيه وجدّه في عملية التبشير والتبليغ كان بسبب إيمانه الثابت بانتصار أمر الله في النهاية ونجاة كل من سيركب معه فيه ويتمسك بعروته الوثقى في الدنيا والآخرة، وأن من أسباب استهزاء الناس به وبأمره، هو قلّة عدد المؤمنين والمصدقين من ذوي القلوب السليمة، وكثرة عدد المعترضين والمعاندين من أصحاب القلوب الصخرية القاسية، ويقينهم بانتصارهم في أي معركة أو مقابلة حربية بينه وبينهم.
لذلك فان معنى قوله بغرقهم في ماء الطوفان، هو محو ذكرهم من التاريخ وشطب اسمهم من بين الأمم وحلول زمن نسخ شريعتهم القديمة وانتهاء دورها في تعليم البشر، وان سفينة دينه هي السبيل الوحيد لنجاتهم من الموت كفراً والغرق في مياه الإلحاد والكفر بالله.
أما عن ولده ومعنى بقاءه مع ملة الكفر المعارضين لدعوة والده، وعملية التجائه الى جبل عال ليعصمه من الفيضان ثم الغرق (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ)(13)، فالمعنى هو أن الابن لم يصدق دعوة والده، كما هو حال بقية قومه، ليقينه التام بقوة فكر شريعته القديمة وظنه ببقائها وخلودها، وعدم قناعته بالدين الجديد، واعتقاده ان جبال علماء العقيدة القديمة، هم خير حصن وأحسن ملاذ له، لأنه ظن أن دين قومه القديم هو دين الحق ولا غيره، وما دعوة والده الجديدة، إلا دعوة باطلة مجنونة، مما دفعه الى اللجوء لأحد علماء الدين السابق الكبار من الذين كانوا يعتبرون قبل دعوة سيدنا نوح، مثل الجبال الرواسخ الكبيرة في العلم والمعرفة والإيمان؛ وفي الحقيقة ان علماء الدين يعتبرون جبالاً راسخة في الدين والإيمان، فهم الذين يقودون الناس الى طريق الهداية والنور، كما يشبهون في مواقع أخرى أيضاً، بالنجوم اللامعة في سماء الأديان، لأن الناس يستدلون بهم في طريق الايمان والهدى ويحتمون بظلهم ورسوخهم ويتبعونهم في تفاسيرهم وفتاواهم عندما يسود الناس ظلام الكفر والظلم، كما قال تعالى في تشبيههم (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ)(1) وكذلك قوله الكريم (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(2).
لكن هؤلاء العلماء ينحسر دورهم وتتراجع مكانتهم عند ظهور أي دين جديد، ولا يصبح لهم شأن عند بزوغ شمس جمال الرسول أو النبي الجديد في كل عهد ودور، بل على العكس يصبحون سبب الضلالة والتيه والخسران عند معاندتهم دعوات الرسل الجدد؛ مثلهم مثل أغصان شجرة الدين، فإن نسخت وماتت الشجرة، ماتت الأغصان ولا تعد تصلح إلا للنار.
لذلك طغت مياه الكفر والاعتراض والتصدي، وعلت فوق الابن وفوق أكبر رجل دين في الديانة السابقة وأغرقتهما ومحيت آثارهما وآثار قومهما بمجرد ظهور سفينة دين سيدنا نوح، ولم يبق من ذلك العالم الجبل أي ذكر في الكتب التاريخية القديمة، وان من نجا من طوفان الكفر والإلحاد في تلك الدورة، هم فقط الذين تمسكوا بأذيال النبي الجديد في زمانهم وآمنوا به وبدينه وصدّقوه وركبوا معه سفينة أمره المبارك ووصلوا الى أرض النجاة والبقاء والخلود ودخلوا جنة مرضاة الله؛ وان ذلك الطوفان المتكرر المتجدد مع ظهور سفينة كل دين جديد، ما هدأ الا بعد ان تم انتشار الأمر الجديد ومحيت آثار الكفر، فنزل المؤمنون الى يابسة الايمان ليعمروا بيوت دين الله في الأرض، حيث انتهى حال الكفرة الى الموت المادي والروحاني معاً، كما حصل لكل من كفر بأي دين ظهر على الأرض قبل النبي نوح أو بعده، فبقي ذكر المؤمنين في الدنيا والآخرة ومحي ومحق اسم الكفرة من كل ذكر خير بشأنهم.
أما النقطة المهمة الدقيقة والإشارة المعصومة في قوله تعالى (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(3)، فهي: نزول الأمر الإلهي الى أرض قلوب البشر بابتلاع ماء أفكار كفرها التي طغت على حياتهم. وأمره للسماء السامية بالتوقف عن إنزال مزيد من ماء الغيث السماوي أي مزيداً من مياه الأحكام والقوانين الإلهية لكفايتها وتمامها، وذلك لتحقق الغاية الإلهية المقدرة، أي استقرار سفينة الدين على أرض قلوب المؤمنين، وانتهاء تأثير أفكار القوم الكافرة لصد الدعوة الجديدة.
وبمعنى آخر: عودة مياه أفكار الكفر التي كانت سائدة آنذاك الى باطن أرض قلوب البشر الجرزة، لظهور أرض قلوب أيمان جديدة خصبة بدلها مستعدة لاستقبال بذرة الايمان الجديدة ورعايتها لتكون شجرة وارفة محملة بثمار الأعمال الصالحة.
أما أمره بتوقف نزول مياه التنزيل، فيعني تمام نزول الأحكام وكمال الشريعة واكتمال انتشار الدين الجديد وترسخه في قلوب العباد واستقرار سفينة دينه على أرض جديدة جيدة جادة جميلة.
أما الإشارة بعودة ماء الكفر الى داخل أراضي القلوب ودخوله فيها، فهو دليل دقيق على عملية تكرار عودته والخروج والفيضان مرة أخرى من جديد عند انتهاء قوة ديانة نوح وعودة أقوام الظالمين من بعادهم ونهوضهم من نومهم وسبات غفلتهم؛ فهو لم يختف ولم يزول، بل غاض في أعماق أرض القلوب، ولم يذهب بعيدا ليخفي، بل استقر تحت أقدام البشر، لينتظر فرصة تنقيبهم عنه بأيديهم وبرغبتهم ليفيض بينهم وعليهم مرة أخرى بالتدريج ويعلو هاماتهم ورؤوسهم بعد زوال تأثير الإيمان الجديد.
1 – سورة يس آية 62.
2 – سورة الحشر آية 21.
3 – سورة هود آية 44.

Powered By Blogger