Sunday, April 17, 2011

ما المقصود بعبارة خاتَم النبيين-1


ما المقصود بعبارة خاتَم النبيين

(1)

على عكس ما يعتقد معظم المسلمين فالقرآن الكريم لا يغلق باب الوحي أوالمعرفة و لا يصده أمام ظهور رسالة جديدة من عند الله. بل في الواقع يشير القرآن إلى عكس ذلك. فقبل أن نقوم بدراسة الآيات التي تشير إلى مجيء رسالات جديدة من عند الله دعونا أولاً نُظهِر ونكشف ما هو المقصود من كلمة "خاتَم" في هذا الفصل، ثم نرى كيف ولماذا أُسيء فهم وتفسير تلك الكلمة من قِبل عدد كبير من المؤمنين طوال قرون عديدة.

الخطوة الأولى للبحث في موضوع "خاتَم النبيين" هي إلقاء الضوء على الاستراتيجيات التي اعتمدها المفسّرون المسلمون كي يستنتجوا المعنى المنشود من كلمة "خاتَم" أي بمعنى "خاتِم أو آخِر". والتفكر في هذا الموضوع سيضيء نور المعرفة ويزيل الغموض عن القوى الهائلة التي منحها رجال الدين لهذه الكلمة الواحدة من بين آلاف الكلمات في القرآن الكريم. فكلمة "خاتَم" تستعمل في كلٍ من اللغتين العربية والإنجليزية كإسم وصفة وفعل. ولندرس الآن كل مشتق من الكلمة على حدة.

كلمة "خاتَم" كفعل

عندما تكون فكرة "نهاية أو ختم" مناسبة لمفهوم ما, فإن كلمة "خاتَم" يمكن أن تعني ضمناً ختامي أو نهائي مثال ذلك: خَتَمَ المكتوب أو الرسالة والقارورة والأنبوبة وحتى على فم شخصٍ ما! فمثلاً من المنطقي أن نقول "ختمتُ على فم أختي" (وثيق الصلة بالموضوع) ولكن ليس من المعقول أن نقول خَتَمْتُ أختي. وبالمثل تعطينا كلمة خاتَم معنى اصطلاحي في قوله تعالى: "خَتَمَ الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةً." (سورة 7, آية: 2). ولكنها لا تعطينا أي معنى إذا قيل: خَتَمَ الله رسولاً! يستعمل القرآن الكريم كلمة خاتم كفعل ولكن استخدامه دائماً مناسب لمفهوم "الختام والنهاية" وغالباً ما تشير إلى فئة من الناس الّذين لا يستحقّون نعمة الهداية وموهبتها.

اليوم نختم على أفواههم . سورة 36, آية: 65 .

وفي الإنجيل المقدّس تستعمل كلمة خاتم لإيصال فكرة السرية والكتمان والختام والنهاية مثال ذلك:

"أما أنت يا دانيال فأخف الكلام واختِم السّفر إلى وقت النهاية." (دنيال 12, آية: 4 وانظر أيضًا رؤيا يوحنّا اللاهوتي 22, آية: 10).

كلمة "خاتَم" كصفة

تُستَعمل كلمة خاتَم كصفة، مثال ذلك: "رحيق مختوم" (سورة 83, آية: 25). وإذا كانت هذه الصفة مناسبة للفكرة الأساسية فربما تعطينا مفهوم الختام أو النهاية. فيمكننا أن نقول "ظرف مختوم" أو "رحيق مختوم" أوأفواه مختومة ولكننا لا نستطيع أن نقول طفل مختوم أو أب مختوم. إن مثل هذا الاستخدام غير مصطلح.

في أغلب الأحيان كلمة "خاتم" كصفة تشير إلى مِلكية وسلطة وضمان, مثال ذلك: وثيقة مختومة، فإنها لا تعني وثيقة ختامية أو نهائية ولكن هي وثيقة رسمية وُضِعَ عليها ختمُ التصديق وفي هذه الحالة يكاد خاتم يعادل التوقيع. فتضع شركة ما ختمها على قنّينة المشروبات للأسباب التالية:

· لتحديد نوع المشروب وليُبَيِّنَ مصدر صناعته.

· للتعبير عن نوعيّة المشروب الفريدة.

· لحماية محتويات الزجاجة وإثبات نقاوتها وإنها لم تُفتَحْ.

مثال: لنتأمل زجاجتين من المشروبات، نلاحظ بأن كلتيهما مغلقتان بسداد محكم، إحدى الزجاجتين عليها ختم والأخرى بدون. فالزجاجة التي تحتوي على الختم تكون قيمتها أكبر لأن عليها "ختم رسمي" للشركة المصنّعة، علاوةً على ذلك فإن الختم يدل على ضمان محتويات الزجاجة وانها لم تُفْتَحْ بعد.

إننا لا نستطيع أن نغلق الزجاجة بالختم ولكنّنا نغلقها بالفلّين وبعد ذلك نضع الختم الرسمي كدليل لضمان محتويات الزجاجة. يوجد في الولايات المتحدة منظّمة لإختبار الخصائص التي يفرضها القانون على المنتجات، وإذا حازت هذه المنتجات على المستوى المطلوب، يصرّح للصانع وضع الختم المعروف باسم: ختم الجودة النوعية. وحيث أن فكرة الختم مرتبطة بالزجاجة، فصفة "خاتَم" هنا يمكن أن تعطينا فكرة الخِتَام.

كلمة "خاتَم" كإسم

الإستعمال الثالث لكلمة "خاتَم" كإسم ــ كما أطلق الله سبحانه وتعالى هذا الإسم على سيّدنا محمد خاتَم النبيين. هل تشير كلمة خاتَم كإسم إلى مفهوم خِتَام؟ لا أبداً، إلا إذا امتد خيالنا إلى ما وراء المنطق. فالكلمة نفسها خالية من المعنى أو المغزى الإصطلاحي إذا طبّقت على إنسان. لنفترض أنك قلت: "أنا خاتَم إخوتي"! فماذا تعني بذلك؟ ماذا سوف يعتقد الآخرون؟ هل من الممكن أن يفسّر أي شخص بأنك آخر إخوتك؟ ماذا لو قلت:"أنا خاتَم جيراني"، ماذا تعني بأنّك الجار الأخير؟

إذًا ماذا تُظهِر وتكشف كلمة "خاتَم" كإسم؟ إنها تشير إلى فكرة الامتلاك والتصديق والضمان والسلطة. إن كلمة "خاتَم" كإسم تعني " علامة رسمية" تُعتَمَد وتُستَخدَم لتحديد هوية شخص معين أو مؤسسة وهو ما يعادل التوقيع على وثيقة. فكلمة خاتم كإسم لا تشير إلى عمل أو فعل كما توحي إليه تلك الكلمة كفعل. إنها تنقل فكرة التصديق على الشيء والموافقة.

ولننظر إلى هذه الآية من الإنجيل المقدّس حيث استُخدِمت كلمة خاتم كإسم:

اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي ...الّذي يعطيكم ابن الإنسان لأن هذا الله الآب قد خَتَمَهُ. (إنجيل يوحنّا 6, آية: 27).

التعريفات التالية المستخرجة من اثنين من القواميس تُظهِر بوضوح الفرق بين معنى خاتَم كإسم (فيما يتعلق بسيدنا محمد) وكفعل :

خاتَم كفعل ـــــ لا يُطلق على سيدنا محمد ولا ينطبق عليه

القاموس يُقَدِّم المعاني الآتية:

1ــ إغلاق مدخل, ختم مظروف.

2ــ التصديق بوضع ختم. مثال: تم التوقيع على المعاهدة وخُتِمَت من قِبَل

الحكومتين.

3ــ غالباً, يُغلِق, يُغلِق باحكام, يَسَُُد.

خاتَم كإسم ــــ يُطلق على سيدنا محمد وينطبق عليه

كلمة "خاتَم" كإسم

الإستعمال الثالث لكلمة "خاتَم" كإسم ــ كما أطلق الله سبحانه وتعالى هذا الإسم على سيّدنا محمد خاتَم النبيين. هل تشير كلمة خاتَم كإسم إلى مفهوم خِتَام؟ لا أبداً، إلا إذا امتد خيالنا إلى ما وراء المنطق. فالكلمة نفسها خالية من المعنى أو المغزى الإصطلاحي إذا طبّقت على إنسان. لنفترض أنك قلت: "أنا خاتَم إخوتي"! فماذا تعني بذلك؟ ماذا سوف يعتقد الآخرون؟ هل من الممكن أن يفسّر أي شخص بأنك آخر إخوتك؟ ماذا لو قلت:"أنا خاتَم جيراني"، ماذا تعني بأنّك الجار الأخير؟

إذًا ماذا تُظهِر وتكشف كلمة "خاتَم" كإسم؟ إنها تشير إلى فكرة الامتلاك والتصديق والضمان والسلطة. إن كلمة "خاتَم" كإسم تعني " علامة رسمية" تُعتَمَد وتُستَخدَم لتحديد هوية شخص معين أو مؤسسة وهو ما يعادل التوقيع على وثيقة. فكلمة خاتم كإسم لا تشير إلى عمل أو فعل كما توحي إليه تلك الكلمة كفعل. إنها تنقل فكرة التصديق على الشيء والموافقة.

ولننظر إلى هذه الآية من الإنجيل المقدّس حيث استُخدِمت كلمة خاتم كإسم:

اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي ...الّذي يعطيكم ابن الإنسان لأن هذا الله الآب قد خَتَمَهُ. (إنجيل يوحنّا 6, آية: 27).

التعريفات التالية المستخرجة من اثنين من القواميس تُظهِر بوضوح الفرق بين معنى خاتَم كإسم (فيما يتعلق بسيدنا محمد) وكفعل :

خاتَم كفعل ـــــ لا يُطلق على سيدنا محمد ولا ينطبق عليه

القاموس يُقَدِّم المعاني الآتية:

1ــ إغلاق مدخل, ختم مظروف.

2ــ التصديق بوضع ختم. مثال: تم التوقيع على المعاهدة وخُتِمَت من قِبَل

الحكومتين.

3ــ غالباً, يُغلِق, يُغلِق باحكام, يَسَُُد.

خاتَم كإسم ــــ يُطلق على سيدنا محمد وينطبق عليه

القاموس يُقَدِّم المعاني الآتية:

1ــ علامة رسمية, علامة لها رسم وتصميم مميز وتبيِّن سلطة شخصٍ أو سلطة

منظمة. مثال: كتاب مختوم بالختم الرئاسي.

2ــ تصميم مختوم على قطعة أو شمع أو غيرها من مواد لينة ملساء ليُظهِر حق

الملكية والموثوقية. ختم الولايات المتحدة مرفق بالوثائق الحكومية الهامة.

كيف يعطي القرآن الكريم لقب خاتَم لسيدنا محمد؟ يُعطيه فقط كإسم. فيُعلِنُ ببساطة أن محمداً هو خاتَم الأنبياء.

...... وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ. سورة 33, آية: 40

إن القول بأن محمداً هو خاتَم الأنبياء مرادف للقول بأنه هو الصورة الرسمية المميزة لرسل الله ومعلميه العظماء. فاستخدام كلمة خاتَم بهذه الطريقة لا تشير إلى فعل. ولا تعني بأن سيدنا محمد قام بفعلِ شيءٍ ما وأنه أوقف عملية مستمرة. وكذلك لم يعلن القرآن بأن رسالة سيدنا محمد ختمت ( كفعل) أو أنهت الظهورات المتوالية لرسل الله في المستقبل. إن القرآن الكريم بكل بساطة يمنح ويهب هذا اللقب للرسول الكريم.

كما أن استخدام كلمة خاتَم وفي تصريفه كإسم ونسبته للإنسان غير مصطلح. ولكن كما نعلم يتحدث الله سبحانه وتعالى غالباً بالأمثال والرموز أويستخدم عبارات تحتوي على استعارات. وهذه هي الكيفية التي يشير إليه هذا اللقب والعنوان.

وحيث أن كلمة "خاتَم" و كلمة "العلامة أوالصورة المميزة" يُلائم نفس الغاية والقصد, دعونا الآن نستبدل أحدهما محل الآخر. هذا التبديل سوف يساعدنا أن نصبح أكثر موضوعية في الطريقة التي ندرك بها هذا اللقب لسيدنا محمد.

لقب سيدنا محمد:

محمد هو ..... رسول الله وصورة مميزة (صورة مميزة ــ معنى لكلمة Signature كما جاء في قاموس المورد) للرسل.. (من كتاب- خاتم النبيين)

ونتابع معاً-الجزء الأخير من هذا المقال في المقال القادم


Saturday, April 2, 2011

رسالة مفتوحة إلى كلّ المصريّين


أبريل 2011

من المصريين البهائيين

رسالة مفتوحة إلى كلّ المصريّين

إخوتنا وأخواتنا في الوطن،

لا شكّ أنّ أحداث الأشهر القليلة الماضية في مصر قد منحتنا، نحن المواطنين البهائيين، فرصةً لم نعهدها من قبل في أن نخاطب مباشرة إخوتنا وأخواتنا في الوطن. ومع قلّة عددنا، كان لنا حظّ الانتماء إلى هذا الوطن العزيز الذي دأبنا أن نعيش فيه منذ أكثر من قرنٍ من الزمان طبقاً لمبادئ ديننا وقِيَمه، باذلين جهدنا في خدمة بلدنا كمواطنين مخلصين. إنّها فرصة طالما تمنّيناها وفي أعماقنا شكر دفين لذلك العدد الغفير من أصحاب العقول المنصفة والنفوس المتعاطفة التي آزرتنا في جهودنا خلال السنوات القليلة الماضية في سبيل أن نحظى بقسط من المساواة أمام القانون. ففي هذا المنعطف الدقيق من تاريخ أمتنا، تغمرنا البهجة ونحن نرى أن باستطاعتنا أن نقدم إسهاماً متواضعاً في الحوار الدائر الآن فيما يخصّ مستقبل بلادنا، فنشارككم بشيء من وجهات نظرنا من منطلق خبرتنا كمواطنين مصريين وما لدى مجتمعاتنا البهائية في العالم من تجارب، طبقاً لما يستدعيه المضي قُدُماً نحو الازدهار الدائم مادياً وروحياً.

مهما كان الدافع المباشر وراء هذا التغيير السريع الذي حدث، فإن نتائجه قد دلّلت على أُمنيتنا الجماعيّة، نحن شعب مصر كله، في أن نمارس قدراً أكبر من الحرية في التحكم بمصيرنا. إن ممارسة مثل هذه الحرية لم تكن مألوفة لنا لأننا حُرمنا في السابق من التمتع بهذا القدر منها. لقد علّمنا تاريخنا المشترك؛ كمصريين وعرب وأفارقة، بأن العالم زاخر بالقوى ذات المصالح الذاتية التي بامكانها أن تمنعنا من تقرير مصيرنا أو تدعونا إلى التخلي عن هذه المسؤولية طواعية. ثم إنّ الاستعمار والتّزمّت الديني والحُكْم التسلطي والاستبداد السافر، لعب كلٌّ دوره في الماضي، أمّا اليوم فلا تزال القوة "الألطف" للنظام الاستهلاكي وما يتبنّاه من انحطاط أخلاقي، لقادرة بالمثل على إعاقة تقدمنا بذريعة جعلنا أكثر تمتُّعًا بالحرية المنشودة.

وكوننا كشعب واحد، اخترنا الانخراط بفعالية ونشاط في تحديد مسار أمتنا، فهو مؤشر شعبي عام بأن مجتمعنا المصري قد بلغ مرحلة جديدة في مسيرة تطوّره. فالبذرة المغروسة تنبت تدريجيًا وعضويًا وتتحول في مراحل نشوئها وتزيد قوتها حتى تبلغ حالة تعتبر فيها "ناضجة". وكذا المجتمعات الإنسانية تشترك معها في هذه السمة المميزة. ففي وقت من الأوقات تنمو مشاعر السخط وعدم الرضا عند شعب من الشعوب نتيجة منعه من المشاركة الكاملة في العمليات التي تقود مسار بلاده، وتصبح الرغبة طاغية لدى المواطنين في أن تتنازل السلطة عن مزيد من المسؤولية لهم في ادارة شؤون بلادهم. في هذا السياق، نرى أن الأحداث التي شهدتها مصر يمكن اعتبارها، في واقع الأمر تجاوباً لقوى تدفع بالجنس البشري قاطبة نحو نضوج أكبر وتكافل أعظم. وواحد من الأدلة الواضحة على أنّ البشرية سائرة في هذا الاتجاه هو أن أوجهًا من السلوك الإنساني الذي كان في الماضي القريب مقبولاً وتسبَّبَ في بعث روح النزاع والفساد والتمييز، نراه اليوم بعيوننا، وبشكل متزايد، يتناقض والقيم التي تسود في مجتمع العدل والإنصاف الذي ننشده. وعليه، أصبح الناس في كل مكان أكثر جرأة في رفض المواقف والأنظمة التي حالت دون تقدمهم نحو النضج.

إن التقدم نحو حالة أعظم من النضج هي الآن ظاهرة عمّت العالم بأسره، ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن كل أمم الأرض وشعوبها تتقدم على هذا الدرب بسرعة متماثلة. فعند مرحلة معينة قد تتلاقى الظروف والأحوال القائمة آنذاك في لحظة تاريخية هامة حيث يمكن لمجتمع ما أن يعدّل من مساره بشكل أساسي. في أوقات كهذه يكون التعبير عن المشيئة الجماعية ذا أثر حاسم ومستدام بالنسبة لمستقبل البلاد. وقد بلغت مصر الآن مثل هذه اللحظة بالذات، وهي لحظة لا يمكن أن تدوم إلى الأبد.

عند هذا المنعطف الدقيق، نجد أنفسنا إذاً أمام سؤال هام وخطير: ماذا نسعى إلى تحقيقه في هذه الفرصة التي سنحت وحصلنا عليها؟ ثم ما هي الخيارات المطروحة أمامنا؟ فهناك العديد من نماذج العيش المشترك معروضة أمامنا تدافع عنها وتناصرها جماعات من الناس مختلفة ولها اهتماماتها الخاصة. فالسؤال هنا: هل لنا أن نتّجه نحو إقامة مجتمع فرداني ومجزأ، حيث يشعر الكل فيه بأنهم أحرار في السعي في سبيل مصالحهم حتى ولو كان ذلك على حساب الصالح العام؟ هل سوف تستهوينا المغريات المادية الدنيوية وعنصرها الجاذب المؤثر والمتمثلة في النظام الاستهلاكي؟ هل سوف نختار نظامًا يتغذى على العصبية الدينية؟ وهل نحن على استعداد للسماح بقيام نخبة تحكمنا متناسية طموحاتنا الجماعية، لا بل وتسعى الى استغلال رغبتنا في التغيير واستبدالها بشيء آخر؟ أم هل سنسمح لمسيرة التغيير بأن تفقد زخمها وقوة اندفاعها فتتلاشى في خضم النزاعات الفئوية الصاخبة وتنهار تحت وطأة الجمود الإداري للمؤسسات القائمة وفقدانها القوة على المضي والاستمرار؟ وبالنظر إلى المنطقة العربية - وإلى خارجها في الواقع – من المنصف القول إنّ العالم، توّاق إلى العثور على نموذج ناجح بالاجماع لمجتمع جديرٌ محاكاته. ولذا لعله يكون من الأجدر بنا، في حال أثبت البحث عدم وجود نموذج قائم مُرْضٍ، أن نفكر في رسم نهج لمسار مختلف ونبرهن للشعوب بأن من الممكن فعلاً اعتماد نهج تقدمي حقيقي لتنظيم المجتمع. إنّ مكانة مصر الرفيعة في المنظومة الدولية - بما لها من تراث فكري، وتاريخ عريق وموقع جغرافي - يعني كل هذا بأن مصر إذا ما أقدمت على اختيار نموذج متنور لبناء مجتمعها، فلسوف تؤثر على مسار النمو والتطور الإنساني في المنطقة كلّها بل وعلى العالم بأسره.

في أحيان كثيرة، يسفر التغيير الذي يتأتى عن الاحتجاج الشعبي عن خيبةٍ لبعض الآمال. والسبب في هذا ليس لأنّ الحركة التي ولّدت ذلك العامل الفاعل في التغيير والتحول تفتقر إلى الوحدة والاتحاد، بل في الحقيقة فإنّ أبرز خصائص هذا العامل الفاعل في ضمان نجاحه يتمثّل في قدرته على خلق الوحدة والاتحاد بين أناس تباينت مشاربهم واختلفت مصالحهم. أما خيبة الأمل هذه فتكون بالأحرى نتيجة إدراك أن اتحاد الناس في دفاعهم عن قضية مشتركة ضد أي وضع راهن أسهل بكثير من اتفاقهم على ما يجب أن يأخذ مكانه. لهذا السبب بات من الضروري جدًا أن نسعى جهدنا لتحقيق اجماع واسع في الرأي حول المبادئ والسياسات العاملة على ايجاد أنموذج جديد لمجتمعنا. وحالما يتم التوصل إلى مثل هذا الاتفاق يصبح من المرجح جدًا أن السياسات التي ستتبع ستجتذب وتفوز بتأييد أفراد الشعب الذين تؤثر هذه السياسات على مجرى شؤونهم.

إنه دافع طبيعي مُغْرٍ، ونحن نفكر كيف يمكن لأمتنا أن تُكمل مسيرتها، أن نبادر فورًا إلى استنباط الحلول العملية لمعالجة المظالم المُسلّم بها والمشكلات الاجتماعية المتعارف عليها. لكن، حتى ولو برزت أفكار جديرة بالاهتمام فإنّها لن تمثل في حدّ ذاتها رؤية ذات أثر فاعل في تحديد كيف نريد لبلدنا أن ينمو ويزدهر. فالميزة الرئيسة للمبدأ هي أنه إذا فاز بالدعم والتأييد فإنه يساعد على اتخاذ المواقف الايجابية، وبعث الفعالية المؤثرة والعزيمة القوية والطموح الناشط. فيسهّل ذلك في اكتشاف الخطوات العملية وطرق تنفيذها. ولكن يجدر بالمشتركين في أي نقاش حول المبادئ، أن يكونوا على استعداد لتخطّي مستوى الفكر التجريدي. ففي مرحلة صياغة الأفكار حولها قد يكون من السهل نسبيًا أن يتم الاتفاق على عدد من المبادئ التوجيهية، ولكنها لن تكون أكثر من شعارات جوفاء إذا لم نُخضِعها لفحص دقيق نستطلع فيه عواقبها المتشعبة وآثارها المختلفة. وينبغي لأيّة محاولة للتوصل إلى إجماع في الرأي أن تساعد على إجراء استطلاع فاحص للآثار الخاصة والأبعاد العميقة المترتبة على اعتماد أي مبدأ من هذه المبادئ بالنسبة لمقدّرات وطننا العزيز. وبهذه الروح اذًا يمكن لنا أن نعرض عليكم بكل تواضع ومحبة المبادئ التابع ذكرها.

*

تبرز في أي مجتمع ناضج ميزة واحدة فوق كل الميزات الاخرى ألا وهي الاعتراف بوحدة الجنس البشري. فكم كان من حسن الطالع إذًا أنّ أكثر الذكريات رسوخًا في الذهن عن الأشهر القليلة الماضية ليست عن انقسامات دينية أو صراعات عرقية، وإنما عن خلافات نحّيت جانبًا من أجل قضيتنا المشتركة. فقدرتنا الفطرية، كشعب واحد، على الإدراك والإقرار بأننا كلنا في الحقيقة ننتمي إلى أسرة إنسانية واحدة خدمتنا جيدًا وأفادتنا. ومع ذلك فإن إقامة وتطوير المؤسسات والدوائر والبُنى الهيكليّة الاجتماعية التي تعزز مبدأ وحدة الجنس البشري تشكّل تحديًا كبيرًا بكل معنى الكلمة. إن هذا المبدأ القائل بوحدة العالم الإنساني البعيد كلّ البعد عن كونه تعبيرًا مبهمًا عن أملٍ زائفٍ، هو الذي يحدد طبيعة تلك العلاقات التي يجب أن تربط بين كل الدول والأمم وتشدها كأعضاء أسرة إنسانية واحدة. ويكمن أصل هذا المبدأ في الإقرار بأننا خلقنا جميعًا من عنصر واحد وبيد خالق واحد هو الله عزّ وجلّ. ولذا فإن ادّعاء فرد واحد أو قبيلة أو أمّة بالتعالي والتفوق على الغير ادّعاء باطل ليس له ما يبرره. فقبول مثل هذا المبدأ يستدعي تغييرًا شاملاً في بنية المجتمع المعاصر وتغييرًا ذا نتائج واسعة الأثر بعيدة المدى لكل وجه من أوجه حياتنا الجماعية. ويدعو هذا المبدأ، علاوة على ما يخلقه من آثار ونتائج اجتماعية، إلى إعادة النظر بدقة متفحصة في كل مواقفنا مع الآخرين وقيمنا وعلاقتنا معهم. فالهدف في نهاية الأمر هو إحياء الضمير الإنساني وتغييره. ولن يُستثنى أي واحدٍ منّا فيتفادى الانصياع لهذه المطالب الصارمة.

إن النتائج المترتبة عن هذه الحقيقة الجوهرية - أي مبدأ وحدة العالم الإنساني- عميقة لدرجة أن مبادئ أخرى حيوية وضرورية لتطور مصر المستقبلي يمكن أن تستمدّ منها. ومن الأمثلة ذات الأهمية الأولى على ذلك هي مسألة المساواة بين الرجال والنساء. فهل هناك من أمر يعيق تقدم بلادنا العزيزة أكثر من الاستثناء المستمر للمرأة واستبعادها من المشاركة الكاملة في شؤون بلادنا. إن إصلاح الخلل في هذا التوازن سيقود بحدّ ذاته إلى إدخال اصلاحات وتحسينات في كل مجال من مجالات الحياة المصرية الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فالإنسانية، مثلها مثل الطائر الذي لا يستطيع التحليق إذا كان أحد جناحيه أضعف من الآخر، فستظل قدرتها على السمو الى أعالي الاهداف المبتغاة معاقة جدًا ما دامت المرأة محرومة من الفرص المتاحة للرجل. فعندما تكون الامتيازات ذاتها متاحة ً للجنسين فإنهما سيرتقيان ويعود النفع على الجميع. ولكن مبدأ المساواة بين الجنسين يجلب معه، بالإضافة إلى الحقوق المدنية، سلوكًا يجب أن يطال البيت ومكان العمل وكل حيّزٍ اجتماعي ومجال سياسي وحتى العلاقات الدولية في نهاية المطاف.

ولا يوجد مجال أجدر وأكثر عونًا في تحقيق المساواة بين الجنسين من التعليم الذي وجد أصلاً ليمكّن الرجال والنساء من كل الخلفيات الاجتماعية، من تحقيق كامل طاقاتهم وامكاناتهم الفطرية والمساهمة في رقي المجتمع وتقدّمه. وإذا كان لهذا الأمر أن يلقى النجاح، فلا بد من تقديم إعدادٍ وافٍ للفرد حتى يشارك في الحياة الاقتصادية للبلاد، ولكن لا بدّ للتعليم أيضًا أن يخلق بُعداً اخلاقياً متيناً. فينبغي على المدارس أن ترسّخ في أذهان الطلاب المسؤوليات المترتبة على كونهم مواطنين مصريين وتغرس في نفوسهم تلك المبادئ والقيم الداعية الى تحسين المجتمع ورعاية مصالح إخوانهم من بني البشر. ولا ينبغي السماح لأن يصبح التعليم وسيلة لبثّ الفرقة والكراهية تجاه الآخرين وغرسها في العقول البريئة. ويمكن بالأسلوب التربوي الصحيح أيضًا، أن يصبح التعليم أداة فاعلة لحماية أجيال المستقبل من آفة الفساد الخبيثة والتي ابتلينا بها وأصبحت واضحة المعالم في مصرنا اليوم. علاوة على ذلك فإن الحصول على التعليم الرسمي الأساسي يجب أن يكون في متناول الجميع بصورة شاملة دون أي تمييز قائم على الجنس أو العرق أو الإمكانات المادية. وستثبت التدابير التي سوف نتخذها للاستفادة من موارد بلادنا الحبيبة - تراثنا وزراعتنا وصناعتنا - بأنها تدابير عقيمة إذا نحن أهملنا أهم الموارد شأنًا، ألا وهي قدراتنا الروحية والفكرية التي أنعم بها علينا الله عزّ وجل. ولذا فإن وضع سلّم للأولويات في محاولة تحسين الوسائل التي نعلّم ونثقف بها أنفسنا لسوف يجني محصولاً وفيرًا في الأعوام القادمة.

ومن الأمور ذات العلاقة بموضوع التربية والتعليم مسألة التفاعل بين العلم والدين، المصدرين التوأمين للبصيرة التي يمكن للبشرية الاعتماد عليهما في سعيها لتحقيق التقدم والرقي. ويتمتع المجتمع المصري ككلّ بنعمةٍ تتمثّل بأنه لا يفترض التعارض والتناقض بين العلم والدين، وهو مفهوم غير مألوف في أمكنة أخرى بكل أسف. فنحن بالفعل نملك تاريخاً يبعث على الاعتزاز من حيث الاعتماد على روح العقلانية والبحث العلمي - مما تمخّض عن نتائج تدعو إلى الإعجاب في مجالات نخصّ بالذكر منها الزراعة والطب - كما حافظنا على تراث ديني متين واحترام للقيم التي جاءت بها وأعلنتها أديان العالم الكبرى. فلا يوجد في هذه القيم ما يدفعنا إلى التفكير المنافي للعقل والمنطق أو ما يقودنا إلى التزمت والتعصب. فكل واحد منا، لا سيما جيلنا الصاعد، يمكنه أن يعي أن بالإمكان تشرّب الأفراد بالروحانية الصادقة بينما يجدّون بنشاط في سبيل التقدم المادي لشعبهم.

لقد بارك الله أمّتنا بأعدادٍ غفيرةٍ من الشباب. فبعضنا لا يزال على مقاعد الدراسة، وبعض بدأ حياته المهنية أو العائلية، والبعض الآخر الذي ربما كان أكبر سنًا لا يزال يذكر ما كانت عليه الأمور عبر هذه المراحل من مراحل الحياة. إنّ إصلاح نظام التربية والتعليم سوف يؤدي الى قطع شوطٍ طويلٍ نحو ضمان تحقيق قدرات الجيل الصاعد في المساهمة في حياة المجتمع، غير أن هذا ليس كافيًا بحدّ ذاته، فلا بدّ من تعزيز الظروف بحيث تتضاعف فرص العمل بشكلٍ جاد ويتم تسخير المواهب، وتصبح امكانية التقدم على أساسٍ من الاستحقاق والجدارة لا التميّز والمحسوبية. وستتزايد مشاعر الإحباط وتتبدد الآمال اذا ما تمّ اعاقة جهود الشباب لتحسين ظروف العائلات والمجتمعات والأحياء بسبب استمرار آفة الفساد وعدم المساواة والاهمال. فطموحات الشباب السامية وتطلعاتهم العالية تمثّل ائتمانًا لا يملك المجتمع ككلّ - وحتى الدولة في الواقع - تجاهله اقتصادياً أو معنويًا.

هذا لا يعني القول بأن الشباب بحاجة إلى التمتع بامتيازات خاصة، فمعظم الاستياء الذي عبّر عنه الشباب الراشدون في الأسابيع الماضية نابع من وعي حاد بأنهم يفتقرون إلى تساوي الفرص وليس أفضلية المعاملة. ويتضح جليًا من الأحوال التي يواجهها الشباب والكثيرون من أفراد مجتمعنا أن من بين المبادئ البارزة التي يجب أن تدفع سعينا إلى التجدد الذي نبتغيه، هو مبدأ العدل. فالمضامين البالغة الأثر لتطبيق هذا المبدأ وتبعاتها بعيدة المدى إنما هي في صميم القضايا التي يتحتم علينا كأُمّةٍ أن نتفق عليها. فمن تفاعل المبدأين الحيويين للعدالة ووحدة العالم الانساني تبرز حقيقةٌ هامةٌ وهي أنّ: كل فردٍ يأتي إلى هذا العالم إنما هو أمانةٌ على الجميع، وأن الموارد الجماعية المشتركة للجنس البشري يجب أن تتوسع وتمتد ليستفيد منها الكل وليس مجرد فئة محدودة. فالتغاضي عن مثل هذا الهدف وإهماله له آثاره المؤدية بالضرورة إلى زعزعة المجتمع، حيث أن التناقض المفرط القائم بين الفقر والثراء سيؤدي الى استفحال التوترات الاجتماعية القائمة ويثير الاضطرابات. إن التدابير المتخذة لتخفيف وطأة الفقر لا يمكنها أن تتجاهل وجود الثراء المفرط، فحين تتكدس الثروات الهائلة عند قلة من الناس، لا مفرّ للكثرة الغالبة من معاناة الفقر والعوز.

*

لعلّ قلّة من الناس ستعارض الجدوى الأساسية للمبادئ التي جرى بحثها في هذه الرسالة. ومع ذلك، فإن تطبيقها سيكون له تبعات سياسية واقتصادية واجتماعية وشخصية عميقة تجعلها أكثر تحديًا مما قد تبدو في بداية الأمر. ولكن بغضّ النظر عن المبادئ التي سيتم تبنّيها، فإن قدرتها على ترك طابعها الخاص على مجتمعنا الناشئ سوف تعتمد إلى حدٍّ كبير على درجة تبنّينا نحن المصريين لها واعتمادها. فبقدر ما يتمّ تمكين الجميع من المشاركة في عملية التشاور التي تؤثر علينا حتّى نسلك الطريق لنصبح أسياد الموقف في تقرير مصير تطورنا الروحي والمادي فإننا سنتفادي مخاطر وقوع مجتمعنا في شَرَك أيّ نمطٍ من النماذج القائمة التي لا ترى أيّ جدوى من تمكين الناس وإطلاق طاقاتهم.

إنّ التحدي الماثل أمامنا إذًا هو في بدء عمليةٍ من الحوار والتشاور حول المبادئ التي سوف ترشدنا إلى إعادة بناء مجتمعنا وهي مهمة تحتاج إلى جهد ومثابرة. إنّ صياغة مجموعةٍ متجانسةٍ من المبادئ - من بين المفاهيم والتصورات المتباينة - لتنطوي على القوة الخلاّقة لتوحيد شعبنا لن تكون إنجازًا متواضعًا. وعلى كل حال، فإنّ بإمكاننا أن نكون واثقين بأنّ كلّ جهدٍ صادقٍ يُبذل لخدمة هذا الغرض سيُكافأ بسخاءٍ عن طريق إطلاق مقدارٍ جديد من تلك الطاقات البنّاءة النابعة من أنفسنا والتي يعتمد عليها مستقبلنا. وفي حوار وطني عريض القاعدة كهذا - يشترك فيه الناس على كلّ المستويات في القرى والمدن وفي الأحياء والبيت ليشمل جذور المجتمع ويجتذب كلّ مواطن مهتمّ - سيكون من الضرورة الحيوية القصوى ألاّ يتحول هذا الحوار سريعًا إلى نقاشٍ عن الجزئيات والمصالح الآنيّة، أو يُختصر هذا الحوار فيتحوّل إلى إبرام الصفقات وإصدار القرارت لتقاسم السُّلطة من قبل نخبةٍ جديدةٍ تدّعي بأنّها الحكم الفاصل في تقرير مصيرنا ومستقبلنا.

إنّ المشاركة المستمرة لجماهير الشعب - وعلى نطاقٍ واسعٍ - في عملية التشاور هذه ستُقنع، إلى حدٍّ بعيد، المواطنين بأنّ صنّاع السياسة مخلصون في خلق مجتمعٍ عادل. ونظرًا لأن الفرصة متاحةٌ للمشاركة في هذه العملية، فإنّه سيتأكد لنا في صحوة وعينا الجديد بأننا نملك زمام مصيرنا وأننا ندرك معنى القوى الجماعية التي أصبحت مُلكنا فعلاً لتغيير أنفسنا.

إخوتكم وأخواتكم البهائيون في مصر


Powered By Blogger