Wednesday, May 28, 2008

تأملات روحانية مع سيفى سيفى

ونتابع ناقة النبى صالح

أما ما جاء في سورة هود بخصوص ناقة صالح(ع):
* [وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ](61 هود).
تعود هذه الآية الكريمة، لتؤكد ما جئنا عليه، فصالح(ع) يذكّر قومه بالأيام الخوالي، وكيف رفعهم الله من مستوى دان رخيص بعد أيمانهم بدينهم السابق، الى أمة ذات حضارة وقوة ورجال، وكيف سيطروا على بقية الأمم المختلفة واستعمروا أراضيهم وانتصروا عليهم وعلى كل من وقف في سبيل نشر ديانتهم، وكيف جمعوا الناس على عبادة الله الواحد؛ فالنبي صالح ينصح قومه ويطلب منهم استغفار الله ـ باعتبارهم مؤمنين موحدين قائمين على عبادة الله بالفعل ـ وينصحهم بالتوبة والعودة الى الدين الحق. ومما يؤكد هذا المعنى، أي أن قوم ثمود كانوا من الموحدين، قوله تعالى في إشارته الى أن جميع البشر دون استثناء، أنهم يعبدونه ولا يعبدون رباً سواه (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(42 العنكبوت)، وكذلك تأكيده أنه ما ترك أمة من الأمم إلا وبعث فيها نبيّاً نذيراً (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ)(24 فاطر)، وأن ما من رسول إلا وحقق هدفه وآمن الناس بدعوته (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)(64 النساء).
أما لـو كان قوم ثمود كافرين بالله أو ملحدين غير مؤمنين، ولم يسبق لهم الايمان بدين سماوي، فلا يمكن أن يطالبهم النبي صالح(ع) باستغفار الله والتـوبة اليه وهم لا يعرفونه ولا يؤمنون به. فنصيحته لهم بالتوبة دليل على أنهـم كانوا قوماً موحدين، ثم ابتعدوا عن صراط الله الحق المستقيم بالتدريج. وإلا فلا يجوز أن يطالبهم بالعودة والرجوع الى الله ولم يسبق لهم عبادته.
أما الاشارة في أن الله قريب مجيب لدعوة الداعي إذا دعاه، فتشير الى أن رحمة الله موجودة بالفعل وعلى الدوام ولم تنقطع لحظة واحدة عن البشر، كما قال تعالى
(هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا)(1 الإنسان)
، والنبي صالح(ع) يحاول أن يفهمهم أن رحمة الله قد نزلت عليهم بالفعل، وهي الآن على شكل شريعة سماوية، وهي قريبة جدا منهم وبينهم، وان الله استجاب لدعائهم وتوسلهم واستغفارهم وأنزل عليهم رحمته اليوم، وهي ظهوره بينهـم ونزول شريعته اليهم، ليكشف عنهم ما أصابهم من كرب وما نزل بهم من غمة وما انتشر بينهم من فساد وكفر، لأنهم كانوا ما يزالون ساعتها آخر جيل من مؤمني الأمة السابقة صاحبة الكتاب، وهو يحاول أن يفهمهم أنهم وبمجرد اتخاذهم قرارهم النهائي، فرادى أو جماعات، بالصدّ عن شـريعته، وبمجرد أن يعلن لهم إتمام حجته عليهم، كما أعلن سيد المرسلين بهذا الإعلان من بعد في قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا)(3 المائدة)، فستدخل أمة ثمود في زمرة الكافـرين عند الله، ومنذ تلك اللحظة وتلك الساعة ستحجب عنهم رحمة الله ولا يستجاب لدعائهم، كما قال تعالى (قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ)(50 غافر
هـذا إضافة الى أن الآية الكريمة مورد البحث توضح أن هناك علاقة قوية بين ظهور أديان الله والأيمان بها من جهة، وبين ظهور الحضارات الانسانية على الأرض من جهة أخرى، وسنأتي على الموضوع لاحقاً وبايجاز.
* [قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ](62 هود).
تشـير الآية الكريمة الى أن النبي صالح(ع) كان معروفا بين قومه بالأخلاق الحسنة والصفات الطيبة والمزايا الحميدة، شأنه شأن أخلاق وصفات جميع الرسل والأنبياء الكرام، لكن قومه وحالما أعلن دعوته الغريبة الجديدة غير المتوقعة بينهم، راحوا يستنكرون عليه هذا التغيير المفاجئ في أقواله وتصرفاته ومطالبتهم بعبادة الله سبحانه وتعالى، لأنهم كانوا بالفعل على دين سماوي ويتبعون شريعة ربانية ولهم رسول وكتاب منزل، بدليل قوله تعالى (أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا). لذلك جاء اعتراضهم عليه، لأنهم لم ينتبهوا الى مقصده الحقيقي في ترك ما توارثوه عن آبائهم من تمجيد وتبجيل لدينهم وأحكـامه والانتقال الى دينه الجديد. فكان ردهم على دعـوته الاستنكار والاعتراض والتكذيب، مع أنه كان يدعوهم الى شريعة جديـدة أهدى من شـريعتهم تزيد من أيمانهم وتكمله، كما قال تعالى (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)(24 الزخرف)، ويطالبهـم بالهجرة مرة ثانية الى الله، كما قال تعالى (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(26 العنكبوت).
* [قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنْ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ](63 هود).
يعود النبي صالح(ع) ليوضح لقومه أنه قد اختير بأمر من الله لاعلان دعوته، ويطالبهم بفحصها وتدقيق آثارها والتبيّن من صحة آياتها، ويذكّرهم أنه لا خيار ولا قدرة للرسل والأنبياء المختارين أمام أمر الله، كما قال تعالى
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ) (94 الحجر)، لأن هذا هو طريق الفلاح والنجاح، وما غير ذلك إلا الخسران المبين.
* [وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ](64 هود).
لاحظنا أن موضوع النقاش بين النبي صالح(ع) وقومه يرتكز على إعلانه دعوة سماوية جديدة، وحثه النـاس على الايمان بالله الواحد الأحد من جديد؛ من هذا يبدو أنه يصف شريعته بالناقـة، لما سبق وسقناه من أوجه التشابه فيما بين استخداماتها واستعمالاتها. لكن شتّان ما بين ظهور رسول جديد وإعلانه أمرا خطيرا كهـذا، وبين طلبه إخلاء سبيل ناقة وتركها ترعى وتأكل من حيث تشاء، فلا علاقة روحية أو دينية واضحة بين الأمرين. أما ما يلفت الانتباه في الآية الكريمة، فهو وصفها بـ
(نَاقَةُ اللَّهِ)، والمقصود بالناقة هنا هي شريعة الله التي ستنقلهم من جنة دينهم القديم الى جنة دينه الجديد، أو التي ستخلصهم من أرض دين جفَّ ماء أيمانه وانقطعت ثمار أشجار أعماله الصالحة الى أرض دين طيبة مليئة بفواكه الآيات الجديدة وثمار الحكمة والمعرفـة الطازجة. وطالما ضربت آيات القرآن الكريم الأمثال لتقريب مثل هـذه المفاهيم لأذهان العقلاء والحكماء من الناس، كما قال تعالى (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ)(43 العنكبوت). فصالح(ع) يعود لينبه قومه أن رسالته سماوية من عند الله وفيها من الحجج والبراهين والدلائل ما يثبت ذلك، ويطالبهم بعدم الاعتراض عليها او محاربتها وعقرها، وتركها تسري في أراضي قلوب الناس لترتع في حقول عقول كل من يود الاستجابة لهـا، لأنه من المؤكد أن من سيعترض عليها ويحاربها، سـيقع تحت طائلة عذاب الله وقهره. وهذا يثبت لنا أن رحمة الله سبحانه وتعالى تتكرر على عباده كلما تبدلت أحوال الناس وتطورت مجتمعاتهم، ولا تنزل عليهم إلا على شكل شرائع سماوية.
* [فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ] (65 هود).
من المهم جدا أن نبحث عن معنى (اليوم) في كتاب الله، فإذا قرأنا قوله تعالى (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)(5 السجدة)، نفهم أنه يشبه عمر شرائعه باليوم الواحد، فمثلما لليوم الزماني بداية ونهاية، ونهار وليل، ونور وظلمة. كذلك هو الحال بالنسبة لعمر الشريعة، إذ لها بداية ونهاية، ولها زمن نور وقوة وانتشار، وزمن ظلام وضعف وانحسار.
إذن، فالآية الكريمة تريد أن تقول: ان قوم ثمود رفضوا الاستجابة لرجاء النبي صالح بالأيمان، ولم يقتنعوا بدلائله، وقاموا عليه وعلى أتباعه بالصد والنكران والمعارضة، لذلك جاء تحذيره وتنبؤه لهم بابتداء موعد زوال آثارهم وانحسار قوة حضارتهم منذ تلك اللحظة، وأكد لهم أن هذا وعد إلهي لا رجوع فيه، فقد انتهت مدة تنبيههم ومسامحتهم، وبهذا سيستمرون على اسم دينهم لمدة ثلاث أيام شرائع تالية، ثم يختفي اسمهم واسم شريعتهم ويمحى من الأرض الى الأبد.
* [فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ](66 هود).
ومنذ تلك الساعة، ووقتما انتهت مهلتهم للتحقق من صحة أمر الله في دين النبي صالح، بدأت حضارة قوم ثمود ومجدهم وقوتهم بالانحلال والزوال واعتبروا عند الله قوم سوء أخسرين، حتى اختفى اسمهم ورسمهم من بين البشر. لأن الله غني عن عبادة خلقه، وأمره أقوى من أن يوقفه اعتراض الجاهلين. بينما راحت شريعة صالح(ع) الجديدة تنمو وتنتشر في قلوب الناس، ففاز برحمة الله وبركاته كل من آمن بها ونجى من عار الكفر وخزي التعصب.
* [وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ](67 هود).
وبهذا اختفى قوم ثمود وبادت حضارتهم بالتدريج والى الأبد، بسبب ارتفاع صوت الحق وصيحته، ونفخ النبي صالح(ع) في صور الأيمان وبوق الدين الجديد الذي كان إعلاناً عاما لبدء موت من كفر بها روحانياً، وحياة من تقدم للايمان بدعوتها روحياً.
ونعود لنقول أن حضارات البشر ترتبط ارتباطا وثيقا بظهور الديانات السماوية وانتهائها، فكل أمة تنتبه لخطورة وأهمية الايمان بالشرائع السماوية وتتقدم لتصديق رسل الله وتذعن لأمرهم، يبقى اسمها ويستمر ذكرها ويعلو شأنها وتحل عليها البركات والنعم ويرزقها الله من حيث لا تحتسب، حتى ولو تغير اسم دينها واسم رسولها وتبنت شريعة سماوية جديدة، فستبقى في حالة علو وسمو مستقطبة ما حولها من الأمم ليذوبوا في أمتها ويندمجوا في حضارتها. أما إذا ظهر منها وفيها جيل يغفل عن هذه الحقيقة ويستنكر ويجهل تأثير قوتها ، عندها تبدأ عوامل الاندثار والانحلال تنخر في هيكـل بناء مجتمعاتها فتنتشر فيها عقائد الأوهام والأباطيل، فيختفي أثر حضارتها تدريجيا والى الأبد.
ومن المؤسف أن نرى غالبية الأمم القديمة من أصحاب الكتاب قد غفلت عن هذه الحقيقة الفريدة، عندما رفضوا التجديد وابتعدوا عن التطوير وتشبثوا بقديم أديانهم وغالوا في محبة رسلهم وصدّوا وبعدوا عن كل من ظهر بعدهم، وتمسكوا برجال دينهم، لدرجة أنهم جزموا بانقطاع رحمة الله عن العباد، وكأنهم يظنون أن بأيمانهم بمن ظهر عليهم من جديد الرسل، سيدخلون نار غضب الله بدلا من جنة رحمته، وهذا ما
حذر سبحانه وتعالى منه مراراً في كتابه العزيز.
لكن هذا الانحدار والاختفاء للحضارات، يستغرق وقتا أطول مما يستغرقه وقت علوّها وسموّها، لذلك يصعب على العلماء والمهتمين بالحضارات الانسانية والباحثين عن حقائق ظهورها وزوالها، ملاحظة هذه الأسباب واكتشاف حقيقة ما حدث لتلك الأمم الغابرة بشكل واضح، خاصة وهم يستعملون أدلة مادية في بحوثهم للعثور على آثار روحانية معنوية، فشتان بين السبيلين، وبعدما تغيرت لغاتها وتبدلت أقوامها ولم يتبق من آثارها إلا بقايا مهلهلة وإشارات ضعيفة لا تعطي صورة واضحة لما جرى لها أو تكشف عن أسبابها بشكل صريح، علاوة على وجود تأثيرات الزمان وعوامل التعرية الطبيعية ومرور آلاف السنين. فكم من أمم في مختلف أصقاع الأرض لم يكلمنا القرآن الكريم عنهم وعن أحوال حضاراتهم وشؤونها، كما قال تعالى
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُـوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(9 الروم)، وكم من دين ورسول أو نبيّ لم يأت على ذكرهم أو ذكر أتباعهم، كما قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ)(78 غافر)، وما سبب ذلك إلا لأن القرآن الكريم كتاب سماوي روحاني يشجّع الناس على الأيمان والهدى، وليس كتاب تاريخ شعوب أو جغرافية أقاليم، فهدفه الأول والأخير هو هداية الناس وتحذيرهم من مغبة الكفر التي وقعت فيها جميع أمم القبل، كما قال تعالى (وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)(102 الأعراف). إلا أن القرآن الكريم لم يترك ذكر تلك الأمم تماما، بل بقي يشير اليها والى رسلها بشكل عام وبإشارات دقيقة لتشابه أسباب اختفائها، وبرموز وإشارات لطيفة، خاصة من سكن منهم أرضاً قريبة من أرض العرب، كما في إشارته الى أمة المجوس في ايران وتعيينه مكان ظهور رسولهم زرادشت قرب نهر آراس شمال غربها (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا)(38 الفرقان)، وكذلك قوله الكريم (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ)(12 ق). وما الغاية الأخرى من هذا الاسلوب الإعجازي وإشاراته اللطيفة الدقيقة، إلا لإخفاء جوهرة الامتحان الحقيقية والتركيز على نقطة الغفلة التي مر بها أتباع جميع الديانات السماوية القديمة والتحذير منها. وبهذا القانون السماوي يمكن الاستنتاج أن غالبية تلك الأمم القديمة، إما كفروا بأول رسول ظهر عليهم، أو أنهم كفروا بالرسول الذي تلاه، ولم يسبق لأمة من تلك الأمم أن استمرت على تصديق سلسلة رسل الله واحدا تلو الآخر دون انقطاع، وهذا هو سرّ خطأ الانسان الأزلي، وهذا ما يفسر قوله الكريم (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(106 يوسف).
* [كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ]
(68 هود).
لاحظنا أن قوم ثمود كانوا يدينون بدين سماوي قبل ظهور النبي صالح عليهم، وأنهم كانوا من الموحدين لله سبحانه وتعالى، وما مشكلتهم في زمن ظهور النبي صالح(ع)، إلا أنهم رفضوا تجديد دينهم كما أمرهم الله؛ من هنا نستغرب لقوله الكريم (كَفَرُوا رَبَّهُمْ)! فكيف يكونوا كفروا ربهم، وهم موحدون ويتبعون شريعة سماوية قديمة؟
فـإذا تذكّرنا قولـه الكريـم في سورة يوسف (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ)(41)، ندرك ان الله سبحانه وتعالى يستعمل كلمة (رب) حسب استعمالهـا القديـم بين الأمم السابقة، فلقد كان قدماء البشر يطلقونها على أنبيائهم وملوكهم وأمرائهم ورؤسائهم وكبار قومهم وسادتهم.. الخ. إذ ليس من المعقول ان يسقي هذا السجين ربه بالمعنى المقدس، خمراً.
من هذا نفهم أنه سبحانه وتعالى يطلق هذه الكلمة على النبي صالح(ع)، فهو سفيره ورسوله وسيّد قوم ثمود وملك ملوكهم وسبب أيمانهم، وبظهوره فصل بين المؤمنين والكافرين وحكم بينهم، فدخل كل من آمن بدعوته الى جنان الله وخلده، وسيق الكافرون الى نيران جهنم وبئس المصير.
وباختفاء آثار دين وحضارة قوم ثمود جرّاء كفرهم وتكذيبهم لرسالة نبيّهم صالح(ع)، اختفى ذكرهم من الأرض وكأنهم لم يكونوا من أصحاب الكتاب، ولم تكن لهم قبل ذلك حضارة عظيمة. وبذلك لم يؤثر اختفائهم في استمرار رسالات الله وتجدد شرائعه، ولم يحزن عليهم أحد، لا سماء دينهم ولا سماء شريعتهم ولا أراضي الأيمان الطويلة الممتدة، كما قال تعالى
(فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ)(29 الدخان).

Monday, May 12, 2008

من التأملات الروحانية للسيد-سيفى سيفى من خلال المنظور والمفاهيم البهائية


ونتابع ناقة النبى صالح

(2)


* [وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ](74 الأعراف)، يؤكد فحوى هذه الآية المباركة، أن قوم ثمود ظهروا بعد قوم عاد، وكان لهم شريعة سابقة ورسول سابق قبل ظهور النبي صالح(ع) بينهم، فالتذكير بأمر من الأمور، يعني العودة بالفكر الى الماضي وتذكّر أحداثه، لذلك جاء استعمال كلمة (وَاذْكُرُوا) لتشير الى سابق عهدهم باستخلاف الأرض. وبما أننا علمنا أن من معاني استخلاف الأرض، هو استخلاف أرض الأيمان والدين، كما أيّد ذلك قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)(55 النور).
إذن، فالآية الكريمة مورد البحث، تشير الى أنه سبق وكانت أمة ثمود متسلطة في الأرض وكان لها حضارة بعد أمة عاد أصحاب هود(ع)، بسبب أيمانها بدين سابق لظهور النبي صالح عليهم، وأنهم وصلوا الى مستوى حضاري عال استطاعوا فيه بناء قصور عالية في السهول ونحت بيوت لهم في صخور الجبال. وهذا يعني أيضاً أنهم يعيشون في زمن النبي صالح في مستوى اجتماعي دان وحضارة آيلة الى الزوال، لأنه يذكّرهم بما سبق وحصلوا عليه من عز ورخاء وحضارة بعدما آمنوا برسولهم السابق، ويحذرهم من استمرار فسادهم في الأرض، أي من معصية الله والكفر برسالته.

* [قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ](75 الأعراف). وكما حدث ويحدث في زمن ظهور كل نبي أو رسول، قام المستكبرون ورؤساء القوم على النبي صالح(ع) ليعاندوه ويستنكروا عليه هذا المقام الإلهي الرفيع ويحثوا أتباعهم على الكفر به وبدعوته، وراحوا يسألون من آمن من قومهم بدعوته من العبيد والفقراء والمساكين: كيف علمتم وتأكدتم من صحة دعوة صالح(ع) وأحقيتها، وأنتم جهلة أميون لا تقرأون ولا تكتبون، وليس لكم نصيب من علوم الأولين؟ فكان جواب المؤمنون: أنهم استدلوا على ذلك بقوة الله وهديه واستعانوا بنورانية قلوبهم وصفاء سريرتهم، وبوجود هذا الهيكل المقدس بينهم، ومن خلال ما سبق وعرفوه من أخلاقه الحسنة.
ومن الملفت للنظر ما جاء من تباين بين مفهوم سؤال المعرضين وبين جواب المؤمنين، فسؤال المعرضين يرتكّز على العلم والمعرفة (أَتَعْلَمُونَ)، بينما جاء جواب المؤمنين ليشير الى الهدي والهدى والايمان (مُؤْمِنُونَ)، وهذه نقطة جوهرية مهمة، فلقد كان الأيمان برسل الله وأديانهم على الدوام، لا يرتكز على العلوم والمعارف الدنيوية المكتسبة، بل على المنح الربانية والصفات الإنسانية الراقية كالإنصاف وصفاء القلب ونورانية السريرة وطهارة الضمير وصدق الأيمان وما يتمتع به الانسان من شجاعة أدبية ذاتية ومناصرة للحق والشجاعة والإقدام، كما قال تعالى
(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(35 فصلت). وكذلك قوله الكريم (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)
(88،89 الشعراء).
وهذه الآية الكريمة، تفتح الآفاق لمعرفة الفرق بين صفة العلم وصفة الأيمان. فالعلم أمر متعلق بالعقل والتفكير، بينما يتعلق الأيمان بالقلب والروح والفؤاد. وهذا ما يفسر الصعوبة البالغة التي يعانيها الانسان عندما يشاء تغيير دينه مهما كان مستواه العلمي، لأنه يتعامل ساعتها مع جوهر حقيقته وصميم روحه وجذور ضميره وأيمانه التي لا تتفق معها معاييره العلمية. لذلك فهو يحتاج الى قوة روحانية عالية جدا لتحقيق هذا الهدف، ولا يجد هذه القوة العظيمة إلا في قوة الأيمان المنبعثة من دينه السابق. لذلك عليه أن يتخذ أيمانه متاعاً له وسفينة لعبور برزخ الاضطراب والاهتزاز والقلق والتذبذب، حتى ينتقل من ماء بحر الشريعة السابقة المالح الأجاج الى ماء بحر الشريعة التالية الفرات الزلال، وهذا ما تشير اليه الآية الكريمة في بعض مقاصدها
(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (11 الرعد).
بينما يكون الأمر أكثر سهولة في حالة التعامل مع العقل والأفكار والعلوم والمعارف الدنيوية، فمن الممكن أن يقتنع أصحاب الأفكار أو النظريات العلمية، مع بعض الجهد في النقاش أو من خلال قراءة كتاب، فيغيروا آرائهم وينتقلوا بأفكارهم من نظرية الى أخرى أو من مبادئ حزب الى مبادئ حزب آخر
.
* [قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ](76 الأعراف).
يعود المستكبرون والرؤساء الرجعيون، ليردوا على أتباع صالح(ع) ويقولون لهم بتعجب: أنهم ورغم كل ما يتمتعون به من علوم ومعارف، لم يستطيعوا اكتشاف أية علامة أو إشارة واضحة في كتبهم أو آثارهم على ظهور رسول أو نبي جديد بينهم؛ واستناداً الى ذلك، قرروا تكذيب دعوة صالح وعدم الايمان بها.
فيذكّرنا هذا الموقف المتعصب بالآية الكريمة الأخرى
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)(24 الأنفال)، حيث أن سيّد المرسلين محمد، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام، قد أحيا أرواح الناس بالأيمان مثلما فعلت جميع رسل الله من قبل. فإذا علمنا أن من أكبر السدود وأعظم العوائق أمام تجدد أيمان الناس في أزمان رسلهم، هما العلم والمعرفة. نفهم لماذا يعرض الناس عن دعوات الرسل. فالعلماء والمهتمون بشؤون المعرفة يبحثون عن الإثباتات العقلية والأدلة النقلية وما يقنعهم بصحة وأحقية رسالات الرسل، حسب مستوياتهم الذهنية، ناسين أن المتكلم هو رب العقل وخالقه وأنه لا مجال للنسبة أو المقارنة بين الطرفين، وأنه يكلم الأرواح المعنوية أولا ومن ثم العقول بالمفاهيم المادية. لذلك نراهم المبادرين على الدوام بالإعراض والاعتراض والصد والنكران عند ظهور كل رسالة عليهم، فهم يستشيرون عقولهم قبل أرواحهم. وهذا ما يفسر شأن ومقام أوائل المؤمنين والصحابة الكرام والسابقين الناصرين لأديان الله، إذ يكون غالبيتهم من طبقات العبيد والفقراء والضعفاء، ومن يطلق عليهم المستكبرون صفات الأراذل والأميين وبسطاء الناس. فعلى سبيل المثال، كان أول المؤمنين بدين سيدنا محمد(ص) من فئة العبيد والضعفاء، كما يشهد التاريخ بذلك، وكما قال تعالى (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ)(111 الشعراء) وكان غالبية حواريو السيد المسيح(ع) من الأميين والجهلة وصيادي الأسماك، وكذلك هو حال من آمنوا بدعوة سيدنا موسى(ع) من بني اسرائيل، كانوا مستضعفين في الأرض تحت سلطة فرعون الغاشمة، كما قال تعالى (فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ)(27 هود).


* [فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ](77 الأعراف).
وبهذا الاعتراض عن الأيمان بدعوة صالح(ع)، راح المعاندون يعترضون عليه ويكذبونه ويشوهون سمعة شريعته ويقولون بعدم اتفاقها مع أحوال مجتمعاتهم ويقعدون في كل طريق ومرصد ليصدوا الناس عن الايمان بها وينشرون الأكاذيب والافتراءات عنها ويحاولون إعادة كل من آمن بها من قومهم الى دينه السابق، ويتحدّونه أن ينزل العقاب بهم كما يعدهم، لأنهم كانوا ينظرون الى كثرة أعدادهم وسعة أرضهم وقوة حضارتهم.
* [فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ](78 الأعراف).
إذا علمنا أن من معاني (الرَّجْفَةُ) هي يوم القيامة ويوم الحساب، نتساءل: لماذا عاقب الله قوم ثمود على كفرهم، ولم يعاقب الأقوام الكافرة من بعدهم؟ ولماذا قامت قيامتهم على الخصوص، والقيامة العامة الموعود بها جميع البشر لم تقم حتى الآن؟ إذن لابد أن يكون هناك معنى آخر لما ورد في هذه الآية الكريمة، خاصة إذا تذكرنا، كم من الأمم الكافرة ما زالت تعيش معنا في هذه الأيام وهي غير مؤمنة بسيد المرسلين وحبيب الله والمصطفى المختار، بل ولا تدين بدين سماوي. فما الفرق بين هذه الأمم وبين تلك الأمـم؟ وهل أن الكفر بدين سيدنا صالح(ع) كان أكبر إثماً وأشـد ضلالة من مخالفة سيد المرسلين محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام؟
فإذا نظرنا الى كلمة (جَاثِمِينَ)، ندرك أن من معانيها الجلوس والبقاء وعدم الحركة، فلماذا لم يستعمل جل جلاله، كلمة أخرى أكثر دقة، للإشارة الى موت وفناء واختفاء قوم ثمود، خاصة إذا نظرنا الى كلمة (دَارِهِمْ) ولم يقل قبورهم أو لحودهم، ألا يعني ذلك بقائهم في مساكنهم دون تغيير؟ فالقرآن الكريم يعتبر حجة في البلاغة واللغة، كما قال تعالى
(قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(28 الزمر).
نعود الى كلمة (الرَّجْفَةُ) أو القيامة أو الساعة، ونتساءل: كيف قامت قيامة قوم ثمود وحوسبوا، والقيامة الموعودة لم تقم بعد؟
لا نستعين في هذه المعضلة الخطيرة والمسألة الدقيقة بغير كتاب الله، فنقرأ قوله الكريم
(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(55 آل عمران)، هنا نجد ان الله سبحانه وتعالى يعد سيدنا المسيح(ع) برفعة أمته وعلوها فوق أمم الكافرين الى موعد محدد، وهو (يَوْمِ الْقِيَامَةِ). وبما أن هذه الآية الكريمة تشير الى حدث قد تم وحدث ومضى زمانه، وظهرت أمة النصارى وسمت وارتفعت فوق غيرها من الأمم لقرون عديدة، عندما كان الأباطرة وملوك النصارى ومن خلفهم البابوات وكل من دان بدين المسيحية ليساندوهم ويؤيدوهم، حتى يشنّوا الحملات الصليبية ويجيّشوا جيوش الحرب على غيرهم من الأمم ليدخلوها في أمتهم. يكون بحصول كل تلك الأحداث التاريخية السابقة، أن وعد الله لأمة السيد المسيح(ع)، قد تمَّ وتحقق، ولكـن بجزئه الأول. وعندما نقرأ أن أمة المسلمين بعدما ظهرت، راحت تتوسع أرضها وبطاحها وامتدت بعيدا حتى شملت كثير من أقاليم أمم النصارى كما حدث في أرض الشام وفي مصر والأندلس وشرق أوربا. هنا نتوقف عند هذه النقطة، ونتساءل عن نتيجة ومصير وعد الله لأمة النصارى في البقاء في علو وسؤدد حتى مجيء يوم القيامة؟ إذ أن هذا اليوم المشهور لم يأت بعلاماته المعروفة للجميع، والنصارى لم يستمروا في علوهم وسموهم، بل ظهر رسول جديد على الناس، هو محمد المصطفى المختار، عليه أفضل الصلاة والسلام، فأسس أمة جديدة نشر شريعة الاسلام بين الناس امتدت ثغورها الى أقاصي الأرض واستولت على كثير من أراضي النصارى وممالكهم! فكيف يفسر ذلك وأين وعد الله لهم، خاصة وأن هذا الوعد الإلهي قد نزل في القرآن الكريم، ولم ينزل في كتاب الإنجيل؟
من تحقق كل تلك الأحداث الدينية والتـاريخية الجسام، ندرك أنه من الممكن أن يكون لمعنى يوم القيامة والساعة والرجفة، معنيين اثنين، الأول خاص محدد، والثاني عام شامل. وبذلك لـم تكن قيامة أمة النصارى التي وعدهم بها رب العباد، إلا تلك القيامة الخاصة المحـددة بحدود الزمن، بدليل مجيء أمة مؤمنة أخرى بعدهم أنجزت بظهورها وحققت بمجيئها وعد الله عليهم وأنهت بقيامها ووجودها وعد الله لهم. وبهـذا فقيامة شريعة الاسلام وقيامة سيد المرسلين وقيامة أمة الاسلام وقيـامة نزول كتاب القرآن الكريم، كانت هي حقيقة نهاية موعد الوعد الإلهي المحدد الخاص بأمة النصارى. وكان هي قيامتهم الخاصة وقيامتهم الصغرى. وبهذا يتحقق الوعد الإلهي في كتابه الكريم بانتهاء رفعتهم وسموهم الى يوم قيامة شريعة الاسلام.
من هذا قد يكون أن قوم ثمود قد قامت قيامتهم الصغرى وحلَّ موعد ساعتهم المحدودة، فور صدّهم وكفرهم بدعوة رسولهم صالح(ع)، كما حدث فيما بعد مع أمة النصارى. ومنذ تلك الساعة بدأ نجم أسمهم يأفل وشمس شريعتهم تغرب وقوة حضارتهم تختفي وسعة بحر علومهم ينحسر، ورويدا رويدا اختفى ذكرهم ورسمهم ورمزهم من تاريخ البشرية وذابوا بين أجيال بقية شعوب الأرض، ولم تبتلعهم الأرض بين طبقاتها ولم يحترقوا بنيران الشهب والنيازك، بل بقوا يعيشون على الأرض حتى ذابت أمتهم بين بقية الأمم بعد أن انحسرت عنهم رحمة الله وبركاته وتأييده، كما قال تعالى في شأن فريقي الأيمان والكفر
(كُلا نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)(20 الإسراء).
* [فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ](79 الأعراف).
ومما يثبت ويدل على أن قوم ثمود لم يموتوا موتاً جسـدياً ولم يختفوا عن وجه الأرض بعدما أصابتهم الرجفة وبعدما أصبحوا جاثميـن في الأرض، ما تقول به هذه الآية الكريمة التي تكمل ما سـبقها؛ فهي توضح أن النبي صالح(ع) ابتعد ونأى عن قومه وشـرع في عتابهم. ولو كان قـد حصل ما تنبأت به الآية السابقة من عقاب جسـدي بشكل مـادي، لما تمكن من معاتبتهم وإخبارهم بتمام عمله وما أمره الله بـه. لأنهم يكونون قد ماتوا وانتهى أمرهم، وبذلك لا يستطيع مخاطبتهـم وعتابهـم. بل ولجاء تسلسل مكان هذه الآية الكريمة قبل سـابقتها لتتفق مع توالي الأحداث، فالعتـاب لابد ان يسبق الموت حتى تتضح الحجة ويثبت الدليل. وما هذا الحديث والعتاب الإلهي، إلا دليل على موتهم موتاً روحياً ايمانياً وليس موتاً جسديا. أمـا الدليل الحيّ الآخر على ذلـك، فهو ما نشاهده اليوم من أمم عديـدة تدين وتعتقد بمعتقدات قديمة بالية أو سخيفة كافـرة، فلو كان الأمر كمـا يصوره ظاهر الآية مـن موت وهلاك كل أمة بعد كفرها، لما بقي هؤلاء على وجه الأرض حتى اليـوم، ولكان من الأولى أن يموت ويفنى من كذّب وكفر ولم يؤمن بدين سيد المرسلين والمصطفى المختـار.

(استنباط سيفى سيفى)

Friday, May 2, 2008

تأملات روحانية للسيد-سيفى سيفى من خلال المنظور والمفاهيم البهائية

(1)
من معـاني قصـة
ناقـة النبي صالح(ع
(تطابق الديـن والعلـم)

بسم الله الرحمن الرحيم

وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

(49 الذاريات)

من بين قصص الرسل والأنبياء الكرام العديدة، نتناول قصة النبي صالح(ع) التي ورد ذكرها كثيراً في القرآن الكريم، ونتأمل حياة هذا النبي الكريم وكيف عاش بين قوم ثمود وما لاقاه منهم من صدّ وعناد واعتراض، كما هو حال جميع الرسل والأنبياء الكرام، وبهذا كان لابد لنا من التطرّق الى ناقته ومحور قصته التي بجّلها وعظّمها سبحانه وتعالى كثيرا ورفع من شأنها ومقامها لدرجة أن مجرد الاعتداء عليها أو المساس بها كان السبب في موت وفناء قوم ثمود بمجملهم. ونستغرب لكل تلك الصفات وذلك الاهتمام الكبير الذي يصفها بها رب العباد وما حظيت به من مكانة سامية عنده وكيف أمر الناس بتركها لحريتها تفعل ما تشاء وترتع أينما تريد وعدم المساس بها، وهي ناقة وحيوان مثل غيرها! وبهذا يبزغ في أفق العقول مجموعة من الأسئلة: هل كانت هذه الناقة دابة مثل بقية النوق، وما هو الفرق بينها وبين غيرها؟ وكيف كان يميزها صغار القوم وكبارهم؟ ولماذا نالت كل هذا الدعم والاهتمام الرباني؟
يحاول هذا البحث بوريقاته القليلة الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها فقد يسلّط قبساً من النور على ما توارثناه عن أجدادنا من مفاهيمها
.
من الآيات الكريمة التي أشارت الى قصة سيدنا صالح(ع) وقوم ثمود وأمر الناقة وموضوعها، نجد باقة لطيفة منها، جاءت في مجموعة من السور المباركة، لذا سنحاول جمعها والاستهداء بهديها عسى أن نتمكن من توضيح بعض ما نستطيع من معانيها بعون الله وقدرته.
ورد في سورة الأعراف الآية رقم 73:ـ
* [وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا] أي أن النبي صالح(ع) كان من قوم ثمود وعاش بينهم، وبذلك فهو يتكلم ذات لغتهم.
[قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ] أي انه دعاهم الى عبادة الله سبحانه وتعالى وحده وترك ما دونه.
فنتساءل: هل كان قوم ثمود يعبدون إلهاً آخر؟ أم أنهم سمعوا بفكرة التوحيد لأول مرة من النبي صالح(ع)؟ أم كانوا ملحدين لا يؤمنون بوجود خالق لهذا الكون؟
* [قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ] هنا كان من الضروري البحث عن معنى كلمة (بَيِّنَةٌ)، لنتعرف على حجة النبي صالح(ع) أمام قومه، وخير مكان نبحث فيه، هو القرآن الكريم، لأن معنى هذه الكلمة يعتبر من أهم مفاتيح أسرار هذه القصة السماوية.
جاء في سورة البيّنة ما يشير الى بعض معانيها، قال تعالى (لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ . رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً . فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ . وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ)(1-4 البيّنة)، في هذه الآيات الكريمة يتضح بجلاء معنى البيّنة وهو (رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ)، وكذلك تعني: الكتب السماوية، (كُتُبٌ قَيِّمَةٌ).
إذن فالنبي صالح(ع) هو رسول مقدس جاء بكتاب سماوي لقوم ثمود، كما قال تعالى عنه
(فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا)(13 الشمس). إذن، هو يعلن عن نزول شريعة سماوية جديدة، لأن من مقومات الشريعة هما الرسول والكتاب.
أما إذا التفتنا الى معنى كلمة (جَاءَتْكُمْ)، وأخذناها بمفهوم الزمن الماضي، فقد تعني أنه قد سبق وظهر على قوم ثمود شريعة سماوية سابقة قبل ظهور النبي صالح(ع). وهذا ليس بأمر جديد على الله أن يظهر رسول بين أمة لها رسول سابق، فقد عاد وكرر ذلك بظهور السيد المسيح(ع) بين أمة اليهود. وفي هذه الحالة قد يكون قوم ثمود من أصحاب الكتاب السابقين، والنبي صالح(ع) هو رسول آخر يظهر بينهم. وأغلب الظن أنها فكرة صحيحة، بدليل كلمة (رَبِّكُمْ)، فلو كانوا لا يؤمنون بالله، لما استعملت هذه الكلمة، لأنهم في هذه الحالة يكونون ممن لا يعبدون أو لا يعرفون رباً لهم، وبهذا لا تصح طريقة المخاطبة.
لهذا سنحاول اكتشاف ما إذا كان قوم ثمود أصحاب كتاب سابق قبل ظهور النبي صالح(ع)، أم كانوا قوما ملحدين، وذلك من خلال تسلسل آيات هذه القصة القديمة
.
* [هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً] نلاحظ أن النبي صالح وبعد إعلانه عن نفسه بأنه رسول من عند الله وأن معه كتاب، عاد فقال (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ)، وبهذا نتساءل: هل هي إشارة الى ناقته أم الى شريعته؟ وأغلب الظن إنها إشارة الى شريعته. فطالما ابتدأ الكلام في هذه الآيات المباركة بتعريف نفسه وشريعته وكتابه، لذا فمن الأرجح أنه يتكلم عن الشريعة والبيّنة وليس عن الناقة. أو قد يكون هذا مثالا يستعمله سبحانه وتعالى لتشابه الغايتين من الناقة والشريعة، فالناقة وسيلة لنقل الناس من مكان الى آخر، والشريعة وسيلة لنقل الناس من أرض دين الى أرض دين أخرى. والناقة تحقق أهدافا مادية، والشريعة تحقق أهدافا روحانية. ومع ذلك سيتضح فيما بعد أي المعنيين هو المقصود.
ثم نقف عند كلمة (آيَةً)، وهنا نجد لها معنيين أيضا، فقد تعني الآيات المكوَّنة من الكلمات والجمل والمنزلة في الكتب السماوية. وقد تعني معجزة خارقة لقوانين الطبيعة. فأي المعنيين أراد بها رب العباد؟

* [فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ](73 الأعراف)، هنا قد يبدو الكلام في أول وهلة عن الناقة باعتبار أن عملية الأكل خاصة بالمخلوقات. لكننا عندما نعلم أن لكلمة الطعام معنيين، الأول مادي والثاني روحاني، نحتار فيما أراده رب العباد، هل يتكلم عن الناقة أم عن البيّنة والشريعة؟
فإذا تذكرنا قوله تعالى
(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)(197 البقرة)، نلمح قبساً من المعنى الروحاني، فهنا استعملت كلمة الزاد على أنها طعام الأيمان والتقوى وليس الطعام المادي. وإذا تذكرنا قول سيدنا يوسف(ع) للسجينين في السجن معه في قوله تعالى (قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)(37 يوسف)، وعلمنا أن الأكل والطعام المادي لا يأول ولا يفسر، أدركنا أنه يتكلم عن الطعام الروحاني، أي الآيات الإلهية، بدليل أنه يقول (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي)، هذا بالاضافة الى أن هذه الآية الكريمة، تتكلم عن الأيمان والكفر والآخرة وليس عن غذاء البطون. أما إذا تذكرنا قوله الكريم على لسان سيدنا المسيح(ع) (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ)(114 المائدة)، فنجد ما يؤيد المعنى الروحاني، حيث قال (تَكُونُ لَنَا عِيدًا) ولم يقل: تكون لنا غذاء أو طعاما أو شبعاً. كما أنه قال (لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا) ولم يقل لنا أو لمجموعتنا. وهذا يعني من بداية أيمان الناس بدين المسيحية وتأسيسهم أمة النصارى، حتى زمن ظهور الرسول محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام، حينما سيختم رسالتي بظهور دينه الاسلام الآخر.
إذن قد يكون الكلام عن الطعام الروحاني وليس عن طعام اللحوم والخضروات. ومع ذلك لنستمر ونرى.
لكن ماذا عن معنى العبارة الكريمة (أَرْضِ اللَّهِ)، ألا تدل على أنها هذه الأرض الترابية؟ فنعود لنستدل بكتاب الله الكريم، فهو خير ما يستدل به. قال وقوله الحق في مجموعة من آياته الكريمة، نأتي عليها بالتسلسل
:
1- (قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ)(56 الأنبياء)، هذه شهادة أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم(ع)، فهو يشهد أنه قد رأى كيف فطر الله السماوات والأرض، وهذا أمر غير معقول حسب التسلسل الزماني، إذ أنه ولد وعاش بعد ذلك الحدث العظيم بقرون وأزمنة عديدة، وبذلك لا يمكن أن يكون من الشاهدين ولا يمكن ان تعقل شهادته. لذلك لابد ان تكون لشهادته معاني أخرى. فإذا أخذنا معنى كلمة الأرض على أنها أرض قلوب المؤمنين وأرض عقول العباد وأرض بصائرهم، هنا نجد بعض التطابق مع مفهوم الآية الكريمة ومع شهادته، فلقد شاهد سيدنا إبراهيم(ع) بالفعل وبالحق كيف فطر سبحانه وتعالى أراضي قلوب وعقول وبصائر الناس والعباد وبذر فيها بذور الأيمان ثم أنبت فيها أثمار الأعمال الصالحة وفواكه الايقان، وكيف رعاها بعين عنايته وبأيدي المؤمنين وبتوجيهات رسله وأنبيائه. والأكثر من ذلك، أن سيدنا إبراهيم(ع) كان قد ساهم بنفسه في هذا العمل الجليل المقدس مثلما ساهم غيره من بقية الأنبياء والمرسلين، وفطر سماء الشريعة السابقة لشريعته وكشط مفاهيمها العتيقة من سماوات عقول أتباعها، ومدَّ وبسط سماء دين جديد بدلها، ونثر فيها مختلف أشكال نجوم الأحكام والنواهي. وبهذه الطريقة وهذا المنظار، تصح شهادته الكريمة أمام الله وأمام الناس.
2- ومما يؤيد هذا المعنى أيضا، قوله تعالى (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا)(51 الكهف)، فمن المؤكد أن الله سبحانه وتعالى لم يعط مثل هذه الفرصة لأحد من عباده حتى يرى خلق السماوات بنجومها وكواكبها أو خلق هذه الأرض الترابية، ولا حتى لسيدنا إبراهيم(ع)، ولم يسبق أن أشهد أحداً من الناس كيف تم خلقه وبعث الروح فيه. كما أنه ليس هناك حاجة لذكر وتأكيد هـذه المعلومة، فالكل يعرفها ومتأكد منها، إذ لم يسبق لأحد من البشر ان شاهد خلق السماوات ولا خلق الأرض ولا خلق نفسه.
لكن المقصد الكريم أن الله سبحانه وتعالى لم يشهد الكافرين ولا المضلين، بل ولم يمكِّنهم من مشاهدة كيفية خلق أراضي الأيمان في قلوب الناس وعقولهم، لأنهم لم يكونوا منهم ولم ينخرطوا بين صفوفهم، فمثل هذا الخلق الروحاني الرباني ، لا يسأل الكافرين أو المضلين عن رأيهم ولا تقبل مشاركتهم فيه، بل يستعان بأيدي وسواعد وأعضاد المؤمنين والصالحين، وتطلب مشاركة صفوف جيوش الموقنين والأتقياء في بناء سماوات أديان الله وأراضي الأيمان في قلوب العباد من خلال النشر والتبليغ وطرق التعامل الحسنة، فهم القائمون على تنفيذ هذا العمل الجليل المقدس وليس غيرهم
.
3- (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)(30 الأنبياء)، من المستحيل على الكافرين أن يكونوا قد شاهدوا فتق السماوات والأرض أو رتقهما كما تقول به هذه الآية الكريمة، فهذا أمر محال سبق وشهد سبحانه وتعالى بذلك في الآية السابقة. فكيف يمكن التوفيق بين المعنيين؟ لكن المقصود أنه سبحانه وتعالى يشبّه شرائعه بالسماوات لسعتها وكبرها ولضمّها تحت سرادقها أعدادا كبيرة من أقوام خلقه المؤمنين، وأن سماوات هذه الشرائع الإلهية كانت لها على الدوام أرض أيمان وأرض إيقان في قلوب وعقول عباده المؤمنين، وكان سبحانه وتعالى في كل مرة عندما ينسخ شريعة سابقة ويأمر بنزول شريعة لاحقة، يفتق ويفرّق ويفصل بين سماء شريعتها وأرض أيمانها ويمسحها ويزيلها. وبهذا يكون الكافرون من الذين لا يؤمنون ولا يعلمون ولا يشاهدون هذا الحدث الروحاني العظيم. لذلك فهم عاجزون عن مشاهدة فصل أرض الأيمان عن سماء شريعتها في كل زمان ومكان.
4- وكذلك لنأخذ قوله الكريم (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمْ الْغَالِبُونَ) (44 الأنبياء)، تقول هذه الآية الكريمة: أن الناس او الكافرين منهم، قد شاهدوا من قبل كيف ينقص سبحانه وتعالى الأرض ويقلل من مساحتها. والحال أن أحدا لم يشهد ذلك، فالأرض ثابتة الكتلة لا تتغير. لكن المعنى الروحاني الآخر، هو: أن الكافرون بالتأكيد قد شاهدوا وبأم أعينهم كيف تنقص أرض الأيمان في قلوبهم، وكيف تنقص وتتقلص مساحات أراضي أممهم، حالما يأمر سبحانه وتعالى بنسخ كتابهم وفتق سماء شريعتهم وكشطها.
5- (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(25 لقمان)، وفي هذه الآية الكريمة نستغرب من وصف الكافرين بالجهل بعدما قدموا الجواب الصحيح! لكننا عندما نعلم أن السؤال كان عن سماوات الشرائع وعن أرض الأيمان، وليس عن هذه السماء الظاهرة وهذه الأرض الترابية. نفهم لماذا أخطأوا ولماذا هم لا يعلمون. فلقد ظنوا أن مغزى السؤال عن هذه السماوات وعن هذه الأرض وليس عن غيرها.
من هذا يتضح ان هناك معاني روحانية لكلمة الأرض في كتاب الله، مثلما لها معان مادية، منها: أرض القلوب وأرض البصائر وأرض الأيمان وأرض التقوى وأرض الشريعة.. وغير ذلك من المعاني الروحانية العجيبة. وكما نتفق جميعا أن لا حدود ولا نهاية لكلام الله، كما أكد على ذلك قوله الكريم (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(27 لقمان)، كذلك لابد أن نعلم أن لا حدود ولا نهاية لمعانيها في قرآنه الكريم.
وبهذا يكون من معاني بقية الآية الكريمة مورد البحث: أي فاتركوا ناقة شريعة الله تقتات من أراضي قلوب من يشاء الأيمان بها، ودعوها تنثر بذور الأيمان والايقان في أراضي قلوب العباد لتساعدهم على الانتقال من جحيم نار أرض الكفر الى جنة أرض الأيمان المباركة، حتى يخرج من أرجاء أرضها الخصبة أشجار الأعمال الصالحة وثمار العلوم المفيدة، ولا تعارضوا حكم الله ولا تحاربوا أتباعها، لأن من يفعل ذلك يستجلب غضب الله عليه.(استنباط-سيفى سيفى)
تابعونا كى نتعرف على مفهوم ناقة النبى صالح(ص)-فى مقالاتنا القادمة نستكملها معكم.......
Powered By Blogger