Monday, July 21, 2008

تأملات روحانية وسيفي سيفي


(8)
ونتابع آخر جزء من ناقة النبى صالح(ع)
ونجد في سورة الحاقة:
* [كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ](4 الحاقة).
هكذا هو حال جميع الأمم القديمة من أصحاب الكتاب، فكل أمة آمنت برسالة سماوية، صدّقت ما سبق وظهر منها قبل رسالتهم، وكفر غالبيتهم بما لحق بها، وما كل ذلك إلا بسبب عدم استعدادهم لمثل هذه الأنباء الإلهية العظيمة التي تقرعهم وتذهلهم وتفزعهم أشد الفزع، كما قال تعالى (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ . أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ)(67،68 ص)، وكذلك قوله الحق (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)(70 المؤمنون).
* [فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ](5 الحاقة).
وما سبب هلاك قوم ثمود إلا ظلمهم أنفسهم وطغيانهم وجهلهم بعقيدتهم وتعصبهم لمذاهبهم ولرجل دينهم (أشقاها) (الطاغية) وغفلتهم عن حقائق دينهم وبشاراته. ومن المؤكد أن مصير قوم عاد كان ذات مصير قوم ثمود ولنفس الأسباب، بعدما جمعتهما الآية الكريمة معاً.
وفي سورة الشمس:

* [كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا](11 الشمس).
ما كان سبب كفر قوم ثمود وصدهم عن رسولهم صالح(ع)، إلا ما طلا عقولهم وطغى عليها من مفاهيم عقيمة ومعتقدات بالية، وما اصطبغت به من صبغ الظنون السخيفة وألوان الأوهام الواهية.
* [إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا](12 الشمس).
خاصة بعد بروز أشهر وأشقى كبار رجال دينهم وتشجيعه لهم بالصد والنأي عن دعوة النبي صالح(ع) وتكذيب رسالته. فمن يفعل ذلك ويعاند أمر الله وسلطته، فهو من أشقى الناس عند رب العباد.
* [فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا](13 الشمس).
لكن النبي صالح(ع) كان يوضح لقومه حقيقة شريعته وينصحهم بالايمان بها وعدم تكذيبها، فهي ناقة دين الله وسفينة شريعته الجديدة على الأرض، ويشجعهم على ركوبها والاهتداء بهديها، وبقي ينصحهم ويطلب منهم تركها وشأنها ترعى في قلوب الناس لتسقيهم لبن آياتها وزلال ماء أحكامها، لمن شاء الشرب والارتواء منها والتمسك بها.
* [فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا](14 الشمس).
لكن قوم ثمود قاموا على النبي صالح(ع) ولم يصدقوه وألبوا الجموع وحشدوهم ضد دعوته، وبذلك صارت أستار عقولهم سميكة وحجب قلوبهم غليظة، وتفاسيرهم دخاناً كثيفاً، وأقوالهم غيوماً ملبدة، وايمانهم وعلومهم عقبات كأداء أمام عيونهم وأبصارهم حجبت شعاع شمس الحقيقة عنها ومنعتهم من رؤية جواهر أسرار آياته الثمينة، وكان هذا الاعراض والصد والعناد هو السبب الرئيس في استقطاب غضب الله وعذابه عليهم.
* [وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا](15 الشمس).
فذلك الشقي (أَشْقَاهَا)، أخطأ مثل من سبقه وتبعه من رجال الدين القشريين الذين يفضلون زينة الدنيا ومكتسباتهم الدنيوية والمادية على التحول الى الأيمان الحق خوفاً على مصالحهم الشخصية، وارتكب ذات الخطأ الأزلي عندما راح يحرض الناس والعباد ضد دعوة النبي صالح(ع)، لأنه ظنَّ كل الظن أنه متأكداً كل التأكد من صدق دين قومه، وأنه على دين الحق ومؤمن بالله ورسوله، وأن شريعته أزلية وحق من عند رب العالمين، وأن ليس هناك بعد دينه ديناً جديداً أو شريعة تالية، وأن كل من يقول أو يدعي مثل هذا الدعوى الخطيرة، لا يستحق في الدنيا إلا الخزي والعار، وفي الآخرة عذاب في أسفل نيران الجحيم. (انتهى).

Friday, July 11, 2008

تأملات روحانية مع سيفى سيفى

تأملات روحانية مع سيفى سيفى

ونتابع مع ناقة النبى صالح(ع)
(7)
وفي سورة فصّلت:

* [وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ](17 فصلت).
من الواضح أن الآية لا تعني أن قوم ثمود كانوا فاقدي حاسة البصر، وكان الله يردّها ويعيدها اليهم، فيرفضونها ويفضلون العمى عليها. فليس من المعقول ان يكون شعباً بتمامه عمي العيون وعلى هذه الدرجة من الغباء والجهل. لكن المقصود أنهم اصبحوا في نهاية حياة شريعتهم عمي البصيرة مبتلين بظلام القلوب والأفئدة مفضلين الكفر والضلالة والتمسك بما بين أيديهم من عقيدة قديمة توارثوها عن آبائهم وأجدادهم، على الايمان بالشرع الصحيح ومخافة الله وطاعته، فما كان جزاء عنادهم وتعصبهم وجهلهم وكفرهم، إلا غضب من الله وعذاب شديد وخزي وهوان وذلة بين بقية الأقوام.
أما في سورة القمر:

* [كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ](23 القمر).
من معاني (النذر) هم رسل الله، كما قال تعالى في خاطبه لسيدنا محمد(ص) (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ)(89 الحجر).
فقوم ثمود لم يصدقوا مثل من سبقهم ومن تلاهم، ما جاءهم في كتابهم السماوي من إنذارات وتحذيرات من الشرك بالله
والكفر برسوله صالح(ع)، فلقد ظنوا أن لا رسول بعد رسولهم ولا كتاب
.
* [فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ](24 القمر).
واستنكروا أن يظهر بينهم رجل واحد يدعوهم لعبادة الله الأحد ويوحدهم على صراط إلهي فريد، لأنهم كانوا قانعين بتعدد مذاهبهم وكثرة رموز رجال دينهم ومنشغلين بتتبع ما بين أيديهم من تفاسير عقيمة، لأنهم يظنون أنهم على دين الحق الأزلي وأنه لن ينسخ أبدا، حتى وإن ظهر بينهم كل هذا الاختلاف والتعدد في المذاهب والشيع. وكانوا يظنون خطأً، أنهم إذا تركوا ما يعتقدون ويؤمنون به وتحولوا عن دينهم السماوي وابتعدوا عن رجال دينهم الذين فتحوا عيونهم على وجودهم وتربوا على احترامهم وتقديرهم وتبجيلهم، وآمنوا بدعوة صالح(ع)، فسيكونون من الكافرين بالله وسيضلون عن سواء السبيل ويكون مستقرهم جهنم وبئس المصير.
* [أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ](25 القمر).
وتعجبوا وراحوا يتساءلون: هل من المعقول أن يختار سبحانه وتعالى رجلاً منهم ليس بذي شأن، ويترك كل هؤلاء
العلماء والفضلاء الممسكين بزمام أمور دينهم؟ فهذا ما لم يسمعوا به من قبل ولم يذكر في بشارات وآيات كتابهم. لذا ظنوا أن النبي صالح(ع) ما هو إلا كذّاب كبير أو ساحر محتال، كما حدث فيما بعد مع سيدنا محمد(ص)، عندما لم يصدّق اليهود والنصارى ما نزل عليه من سماء فضل رب العالمين، بعدما كانوا يظنون أن موعودهم ورسولهم القادم لابد وأن يظهر من بينهم، وليس من أمة أخرى معروفة بالجهل والتخلف، قال تعالى
(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(31 الزخرف).
* [سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنْ الْكَذَّابُ الأَشِرُ](26 القمر).
من الوارد ان يكون لكلمة (غَدًا) معاني عديدة، منها: ان النبي صالح(ع) يشير الى أن حقيقة أمره وصدق دعوته ستتضح في مستقبل الأيام، أو عند ظهور رسول لاحق آخر يصدق دعوته، لأن من مهام كل رسول كريم تصديق من سبقه والتبشير بمن سيليه، كما قال تعالى على لسان سيدنا عيسى(ع) (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)(6 الصف
).
ومن معاني كلمة (غَدًا) أيضا، هو يوم الدين التالي الذي سيظهر بعد دين صالح(ع)، لأننا علمنا أن عمر ومدة كل دين أو شريعة، يحتسب عند الله بيوم كامل، فمثلما يكون لليوم الزماني تغير وحالات، كذلك هو يوم الدين، فيه وقت شروق الرسالة وبداية استضاءة العباد بها، ووقت ضحى شمسها وبداية حرارة الأيمان والعقول والأرواح، ثم تحول وانتقال الى مستوى السمت فوق الرأس، وهذا دليل الوصول الى أرقى شؤونها الروحانية وقمة رأس حضارتها الاجتماعية. ثم يأتي دور الهبوط وعصر تدني حرارة أيمانها، فتبدأ بالانخفاض في قلوب أتباعها، وتنتشر الظنون الواهية والأفكار البالية بين معتنقيها، وتستمر في الهبوط حتى تنتهي الى الغروب والزوال. عندها تظلم سماء أحكامها ولا تعد تعطي ضوء هديها إلا لمن يختاره الله برحمته الواسعة، فإذا خليت خربت. في تلك الفترة، لا يعد يعرف أتباعها بمن يستظلون ويقتدون. وبما أنهم لا يجدون في زمن ليل شريعتهم إلا نجوم رجال دينهم، ينجذبون اليهم ويتعلقون بأذيالهم ويهتدون بهديهم. وبعد انقضاء فترة الظلام مهما طالت وامتدت، يظهر في السماء نجم بشارة هدي جديد يبشر بقرب بزوغ شمس الهدى مرة أخرى، ويظهر على الأرض نجم رجل مبارك يبشر الناس بقرب سطوع شمس الرسالة والرسول الجديد، فيعلنان معاً انتهاء يوم دين سابق وبزوغ فجر يوم دين لاحق. وهكذا استمرت أديان الله تتنزل على العباد طالما أن الله سبحانه وتعالى خالد أبدي سرمدي وخلقه موجود باق، حيث لا يمكن ان يكون هناك خالق بدون خلق، ولا مبدع بدون إبداع ولا معبود بدون عابد ولا مشكور بدون شاكر. فلابد من وجود الخلق حتى يعرف الخالق، كما قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)(56 الذاريات).
* [إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ](27 القمر).
من معاني كلمة (فِتْنَةً) هو الامتحان، وكذلك كل ما يفتن الناس ويمتحنهم ويزلزل أفكارهم ومعتقداتهم، فلا يعودوا يعرفون الحق من الباطل. وهذا ما كان يحدث بالضبط عند بزوغ شموس الشرائع السماوية السابقة أو عند ظهور أنوار رسل الله، لأن الناس كانوا ينقسمون آنذاك الى فريقين، فريق يضم الغالبية ينادي بضرورة التمسك بدين آباءهم وأجدادهم، لتأكدهم ووثوقهم من صدقية تعاليمهم وكتابهم القديم، وفريق يضم أقلية تصدق الديانة الجديدة وتثبت عليها وتفدي النفس والنفيس في سبيلها.
ومن معانيها أيضا: الرسول والرسالة والشريعة والدين، كما قال تعالى
(وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)(20 الفرقان)، فالخطاب هنا موجه لسيدنا محمد(ص)، وسبحانه وتعالى يصفه وجميع الرسل الكرام بالفتنة، لأنهم يفتنون الناس بدينهم السابق ويمتحنون صدق أيمانهم بفتنة أديانهم التالية. وكذلك قوله الكريم (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ)(17 الدخان)، فسيدنا موسى(ع) كان فتنة لقوم فرعون الذين فتنهم الله بدعوته وامتحن حقيقة أيمانهم، فأرسل الكافرون الى جهنم عذابه بعدما أغرقهم بمياه آيات كتابه، واصطحب المؤمنون الى جنة دينه الجديد بعدما عبر بهم بحر الكفر ونقلهم الى أرض الأيمان. وما ظهور ناقة شريعة صالح(ع) إلا امتحان لقوم ثمود وفتنة لهم، ولمن عاش في زمانهم من أتباع الشرائع السابقة لهم، ليتبين المؤمن الحقيقي من مدعي الايمان الكاذب بينهم.
أما كيف يكون فرعون وقومه من أهل الكتاب وأصحاب شريعة سماوية؟ فالله سبحانه وتعالى لم يترك هذا الأمر المهم دون أن يعطف عليه ويذكره باشاراته اللطيفة الإعجازية. قال تعالى
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ)(26 غافر)، فكلمة (دِينَكُمْ) فيها إشارة واضحة لاعتقاد قوم فرعون بدين سماوي. ولقد كان من قدرة القدير، ان يستعمل كلمة أخرى غيرها ليشير الى معتقدات فرعون وموروثات قومه، بدليل قوله تعالى (قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(28 الزمر). ففرعون كان يتبع ديناً سماويا من عند الله، بدليل أنه يحذر قومه من تبديل دينهم وعقيدتهم، فهو يخاف أن تكون دعوة سيدنا موسى(ع) باطلة، وبدلا من استمرار قومه على التمسك بدينهم السماوي وأحكام شريعتهم الإلهية، ينقلبون ـ حسب ظنه ـ الى اتباع دعوة رجل مدّعي كاذب لم يشتهر بينهم لا بالعلم ولا بالمعرفة ولا بالدين؛ بل يشتهر بقتل نفس. وبهذا ينتشر بينهم الفساد والكفر.
ومن الأدلة على صحة هذه الفكرة، ما تم اكتشافه مؤخرا من تفاصيل حياة الفراعنة ومعتقداتهم، وكيف كانوا يحنطون موتاهم ويدفنون حليّهم وأدواتهم معهم، ظنّاً منهم أنهم سيعودون لهذه الحياة أو أنهم سينتقلون الى حياة أخرى فيستفيدون من لوازمهم. ففكرة البعث والعود والخلود كانت منتشرة بينهم ولو بتلك الطريقة البسيطة، ومثل هذه المعتقدات الروحانية ليس لها مصدر أو منبع إلا أديان الله وشرائعه ورجاله المقدسين.
وهناك آية كريمة أخرى تبين أن فرعون وقومه كانوا من أصحاب الكتاب، وهي
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(11 التحريم).
فنفهم من معانيها أن امرأة فرعون كانت تعرف الله وتعلم أن هناك جنة له، وبهذا فهي تعلم أن هناك جهنم، وبهذا فهي تدرك أن هناك أيمان وكفر، وهذا يثبت ان فرعون وقومه كانوا يتبعون ديناً سماويا قديما من عند الله قبل ظهور النبي موسى(ع) بينهم، وإلا من أين جاء أيمانها بكل هذه الأمور المعنوية والدينية، وكيف ارتضت بفرعون زوجاً لها، إن كان لا يؤمن بالله؟ لكنها بعد أيمانها بدين موسى(ع)، أدركت الفرق بين معتقدها الجديد وبين معتقد فرعون زوجها. وبما أن ملوك وأباطرة الأمم الشرقية في قديم الزمان، كانوا يمثلون ويملكون السلطتين الدينية والدنيوية، يتضح من هذا أن فرعون كان رجل دين ودنيا معاً، وأنه مشى على خطى من سبقه من رجال أديان أمم أصحاب الشرائع القديمة الذين كان ديدنهم على الدوام معارضة رسلهم وصدهم. لذلك عارض فرعون، رسول الله موسى(ع)، إما بسبب الجهل رغم اشتهاره بالعلم، أو بسبب التعصب والغلو في محبة دينه. وهذا يعيدنا الى صحة النظرية القائلة بسرعة أيمان بسطاء القلوب والسريرة من الفقراء والمستضعفين قبل علمائهم ورجال دينهم الذين يعجزون عن عبور عوائق العلم وجدران المعرفة، والمصطبغة قلوبهم بصبغة العناد والتعصب.
فامرأة فرعون عرفت الفرق بين الدين الحق الجديد والدين الباطل القديم المنسوخ، وتقدمت للأيمان برسالة الله حال نزولها على سيدنا موسى(ع)، وتركت دين آبائها وأجدادها حال إشراق شمس الحق من أفق الرسالة الموسوية واعتنقتها، وقالت على الفور: ربي إني قد تركت جنة دينك القديم بعد نسخها، وها أنا أتقدم للأيمان بجنة دينك الجديد، فابنِ لي عندك في أرض جنة دينك الجديد بيت أيمان جديد، وأقبل مني زكاة أيماني وهجرتي إليك، وساعدني في فهم شريعة موسى، ونجني مما يتبعه فرعون زوجي وما يأمر به من كفر بدعوة رسولك، وأخرجني من ملة الكفر الذين ظلموا أنفسهم ويظلمون أتباعهم بالكفر والعناد والصد عن سبيلك المستقيم.
نعود للآية الكريمة مورد البحث، فالنبي صالح(ع) لابد وأنه أدى مهمته السماوية على أكمل وجه وبذل جهده وكل ما في وسعه لدعوة قومه الى الله والايمان برسالته، ولم يترك سبيلا إلا وطرقه، بدليل قوله تعالى حينما أشار الى النبي نوح(ع) وما عاناه في سبيل تبليغ دعوته الى قومه
(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا . فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَاراً . وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا . ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا . ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا)(5-9 نوح).
لذلك نزل الأمر الإلهي على النبي صالح(ع) بترك الكافرين من قوم ثمود وشأنهم والنظر الى عاقبتهم. فمن آمن، فالله عليم بذات الصدور، ومن
كفر فجزاءه عند ربه أسوأ العقاب. كما قال تعالى في أمره لسيدنا محمد(ص)
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(125 النحل)، وكذلك قوله الكريم (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(29 الكهف).
* [وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ](28 القمر
).
وبعدما علمنا أن الكلام في الآيات المباركة السابقة وحسب تسلسلها كان عن الأيمان والأيقان والخشوع والخضوع، إذن لابد أنه لا يخرج عن هذا السياق والنطاق الديني. وقد سبق وذكرنا أن من معاني كلمة (الْمَاءَ) التي ترد في آيات الذكر الحكيم بالاضافة الى معناها العام الشائع، هي ماء الآيات الإلهية وزلال السـور الزكية وفرات الرحمة الربانية التي تهبط مع نزول كل شريعة سماوية من سماء فضل الله لتسقي أشجار أرواح العباد حتى تثمر بفواكه الأعمال الصالحة. فمثلما يروي هذا الماء المادي كل ما هو حيّ من مخلوقات أرضية، حسب قوله تعالى (وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)(30 الأنبياء)، كذلك هو الماء الرباني يسقي أرواح وعقول وقلوب كل من يقبل الى الله ويؤمن بأديانه المقدسة ليظهر من تراب أرض قلوبهم وعقولهم أزهار الحكمة وأثمار العلوم والمعارف، كما قال تعالى (إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ)(11 الأنفال)، فماء الأمطار لا يطهّر الناس ولا يذهب عنهم رجز الشيطان ولا يربط القلوب ولا يثبت الأقدام. بل هي مياه الأيمان ومياه الأديان وزلال رحمة رب العالمين وفرات النعم والبركات الإلهية، فهي التي تطهر الناس وتذهب عنهم رجز الشيطان وتربط قلوب المؤمنين وتثبت أقدامهم على صراط الله المستقيم. وبهذا فالآية الكريمة لا تتكلم عن هـذا المـاء الجاري فقط، بل تتكلم أيضاً عن زلال ماء الآيات وفرات الأيمان. فيكون من معاني الآية:ـ
أخبرهم يا صالح(ع) أن ماء الغيث الإلهي يُقسَّم بين أمم أصحاب الكتاب بنسب ومقادير متفاوتة محددة، كل أمة لها مقدار معين من ماء شريعتها، يبدأ في لحظة محددة وينتهي في يوم من الأيام. وحالما يحين موعد جفافه واحتضاره ينزل ماء شريعة سماوية جديدة على البشر، كما قال تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (34 الأعراف). فمهما حاولتم يا قوم ثمود، التشبث بماء دينكم وحافظتم عليه وزدتم في تعبدكم وغاليتم في أداء فروضه وواجباته، فلابد أن يأتي اليوم الذي تنسخ فيه شريعتكم وينتهي مفعولها ويجف ماء أيمانها فلا تستطيعون له وصولا.
* [فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ](29 القمر).

هذه الآية الكـريمة تشير الى صلب الموضوع وبيت القصيد والى أهم أسباب اعتراض الناس على رسلهم الكرام، وتفصح عن حقيقة مصدر مهم من مصادر الاعتراض والعناد والصد والنكران ومحاربة الله ورسله الكرام.
فكل أمة تلتجئ في ملماتها وخطبها الى رجال دينها وكبار أحبارها لتسألهم عن أمور دينها ودنياها إذا ما استعصى عليها أمرا من أمورها الروحية أو الاجتماعية، خاصة في قديم الزمان. ومن أهم المعضلات التي واجهت عباد الله، كانت مشكلة التمييز بين رجل الدين المؤمن الموقن داعي الحق الحقيقي، وبين مدّعي الدين المزيف القشري وساحر العقول. لذا كانوا بمجرد سماعهم بنبأ ظهور دين جديد وشمس رسول جديد أو نبيّ من الأنبياء، يهرع الأتباع والمريدون الى أولياء أمور دينهم طالبين المشورة والهداية باعتبارهم أصحاب الاختصاص في هذا المجال. وهنا يكون الخطأ الجلل والداهية الدهماء. فإذا كانت الشريعة ما زالت حيّة فاعلة، يكون الناس كمن يطلبون الهداية والاستنارة من
أنوار نجوم الهدى وكواكب التقوى، كما قال تعالى (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)(73 الأنبياء). أما إذا كانت شريعتهم قد ماتت بنزول شريعة جديدة وهم غافلين عن ذلك، فيظن رجال الدين المفسدون، أنهم باقون على عهدهم، ومازالوا كما كانوا مصلحون. لكنه سبحانه وتعالى يوضح هذه النقطة الخطيرة ويبيّن لعبـاده كيف ينقلب شـأن هؤلاء من نور نهار الى ظلمة ليل، ومن هدي مبارك الى ضلالة مغضوب عليها، وكيف يستطيع العباد التمييز بين فريقي المصلحين والمفسدين، كما قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(11 البقرة)، لأن أتباعهم يكونون كمن يطلب الهداية ممن لا هداية له وعاجز عن مساعدة غيره، كما قال تعالى (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا)(3 الفرقان)، وكما قال تعالى (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ)(41 القصص).
ومع كل هذه المعضلات وهذه الفتن والامتحانات، قد يتساءل البعض: كيف يمكن للانسان البسيط أن يميز مكانه ودوره وطريقه ويعرف الحق من الباطل وينجو من نار غضب الله ويدخل جنة رحمته ونعيمه؟
لم يترك الله عباده لأنفسهم يحتارون في مثل هذه الأمور الخطيرة، إذا ما حان أجلها وأزف موعدها، فلقد ترك علامات واضحة وآثاراً مكشوفة لخلقه لمعرفة وتمييز مثل هذه الأزمان عند استعمال عقولهم والابتعاد عن التقليد الأعمى، كما قال تعالى
(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)(117 هود)، ففي هذه الآية الكريمة، قانون إلهي عام يوضح ويكشف لجميع الخلق مهما تباينت درجات ذكائهم ومستويات عقولهم، أن بإمكانهم تمييز هذه العلامات الفارقة. فالآية الكريمة تعلن أن شرط الهلاك وبداية زمن النهاية، هو انقلاب أحوالهم وتفشي السيئات وانتشار الشرور بينهم، وعجز رجال الدين المصلحون على أداء أدوارهم الروحانية، كما أيد ذلك قوله تعالى (مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(15 الإسراء)، فمن ثمارهم تعرفونهم، فلا تطرح شجرة الشوك أو الحسك تيناً أو عنباً.
لذلك فالآية الكريمة تقول أن قوم ثمود بعدما سمعوا بظهور شريعة صالح(ع) الجديدة بينهم، توجهوا الى كبير رجال دينهم الذي يصفه سبحانه وتعالى (بأشقاهم) ليسألونه عن حقيقة الأمر، وبما أنه كان في جوهره رجلاً غافلاً عن بشارات كتابه وجاهلا بجواهر أسراره، فقد تبينت قشرية علومه وسطحية مفاهيمه حالما أفتى بكذب دعوة النبي صالح(ع) وحكم ببطلان معتقدها وقيامه على تحذير الناس من مغبة الايمان بها، فهي حسب ظنه دعوة باطلة وطريق ضلالة وكفر، ونصحهم بعدم ترك دين آبائهم وأجدادهم الذي أجمعت الأمة على أحقيته وقدسيته وضرورة التشبث به
.
* [فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ](30 القمر).
ويبدو أنه كان هناك صدى واسعاً لنصائح (أشقاها) بين قومه، فلقد تبعه غالبية مريديه وصدّقوا أقواله، لأن هذه الآية الكريمة تفصح ان عذاب الله قد نزل بقوم ثمود بعدما تبعوا (أشقاها) وكذبوا نبيّهم صالح(ع)، وبهـذا تكون أمتهم قد أجمعت على الخطأ والباطل، واتفقوا على الكفر والضلالة، وبالتالي كان ويكون هذا التصرف مغناطيس غضب الله ونقمته.
* [إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ](31 القمر).
فلقد كانت لحظة نطق صالح(ع) بعبارة: أني رسول من عند الله. هي لحظة البدء بنزول العذاب الإلهي وهي لحظة الاعلان عن انتهاء عمر شريعة قوم ثمود السابقة ونسخها، وهي الشرارة الروحانية التي تحولت فيما بعد الى نار مستعرة أكلت وجودهم. ومنذ تلك اللحظة، لم يتبق من عقيدتهم ولا من دينهم، ما ينفع الناس في حياتهم أو يصلح لبناء بيوت أيمانهم وقلاع تقواهم، فلقد دخلوا أول فترة الموت والاحتضار، وما هي إلا مدة محدودة مهما امتدت وطالت، حتى انتهى أمرهم وزال ذكرهم ومحيت عقيدتهم وحضارتهم وآلت الى فناء.

Wednesday, July 2, 2008

تأملات روحانية مع سيفى سيفى

ونتابع مع ناقة النبى صالح(ع)
(6)
وجاء في سورة النمل:
* [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ](45 النمل).
ينتقل سبحانه وتعالى في هذه المجموعة من الآيات الكريمة الى توضيح ما يحصل بين الناس وعلى الخصوص بين أمم أصحاب الكتاب عند ظهور رسول جديد من عند الله بينهم، فبعد أن أشار لما لصفات العناد والتعصب والغرور والغلو في محبة الدين القديم من تأثير واضح في اختفاء آثار حضارات الأمم، ينتقل سبحانه وتعالى ليوضح ما يحصل من انقسام بين أمم أصحاب الكتاب حال ظهور دعوة سماوية بينهم، إذ تنقسم الأمة على العموم الى فريقين، مهما كانت النسبة والتناسب بينها عدديهما، فريق يخضع ويؤمن بدعوة الله، فيعود أو فينتقل الى الحياة الروحانية مرة ثانية من جديد، وهذا الفريق يكون على الغالب قليل العدد. وفريق يصدَّ ويبعد عن الأيمان فيموت موتاً روحانياً، وعلى العموم يكون هذا الفريق من غالبية الناس وأكثرهم عدداً (وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)(102 الأعراف). إذ لابد وأن يؤمن بكل دين جديد قلة قليلة من الناس في أول ظهوره، كما قال تعالى وأكد على ذلك (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ)(13 سبأ). وكذلك قوله الكريم (ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ . وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ)(14 الواقعة)، وبهذا يحضرنا سؤال: إذا كان سبحانه وتعالى قد غضب على الكافرين بدعوة النبي صالح(ع) ومحا أثرهم، فما بال الذين آمنوا بها، وأين هم؟ وما كان من مصيرهم؟
هنا نتذكر مرة أخرى ما سبق وجئنا عليه، فسبحانه تعالى، يترك الفريقين على الأرض ليعيشا معاً، هذا يلهو بكفره، وهذا يتمتع بأيمانه، كما قال تعالى (كُلا نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)(20 الإسراء)، فالفريقان يبقيا يعيشان على الأرض، لكن الكافرين يموتون بكفرهم روحانيا بالتدريج، ولا يبقى لهم شان عند رب العالمين، وفي النهاية يمحى أثرهم من خلال تغلغلهم بين بقية الشعوب. بينما يبقى المؤمنون خميرة الأيمان للأجيال القادمة وتزداد أعدادهم حتى يمسوا أمة عظيمة، وحال موتهم يدخلون جنات الخلد عند مليك مقتدر عظيم، كما قال تعالى (قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ)(26 يس)، فهذا المؤمن الشهيد يتمنى أن يعلم من بقي من قومه على الأرض أنه قد دخل جنة الله حال استشهاده ومقتله.
فالآية الكريمة مورد البحث تقول: لقد أظهرنا بين قوم ثمود، رجلا منهم وبينهم، أمرهم بالعودة الى عبادة الله الواحد الأحد مرة أخرى، فلم يؤمن به إلا فئة قليلة وكفر أكثرهم.
* [قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ](46 النمل).
كيف يستعجل الناس السيئة ويطلبونها ويسعون خلفها ويتركون الحسنة ويبعدون عنها، وبينهم العلماء والعقلاء؟ أليس بينهم رجل رشيد؟ من هذا لابد أن يكون للسيئة معنى غير ما ينتشر بيننا من معانيها الكثيرة، عجز عقلاء قوم ثمود عن تمييزها أو التعرف عليها. هنا علينا ان نتذكر مرة أخرى ما لتأثير حجاب العلم وما لآفات التعصب والغلو في محبة الدين من تأثيرات قوية على أتباع الكتاب، وكيف تحجب مثل هذه السحب الكثيفة والستائر السميكة أنوار الحقيقة عن طالبيها.
فإذا علمنا أن شريعة الله توصف بالحسنة عندما تكون حيّة فاعلة طازجة فعّالة عندما تحيي الأرواح وتنعش العقول. وتوصف بالسيئة عندما ينتهي مفعولها وتنسخ أحكامها ويكون الأخذ بها مصدراً للأمراض الفكرية والروحية. نفهم أن الحالة الأولى نتيجتها جنان الله وكسب مرضاته ورحمته والتنعم ببركاته، بينما تكون نتيجة الحالة الثانية غضب الله وسخطه. من هذا نفهم لماذا توصف مرة بالسيئة ومرة أخرى بالحسنة.
فخاطب صالح(ع) قومه معاتباً: ما لكم تستعجلون في صدكم عن سبيل الله وتستنكرون ظهور رسول بينكم، وتصرون على التمسك بشريعتكم المنسوخة قبل أن تتحققوا وتتأكدوا من صدق دعوتي، فلن تخسروا شيئاً إذا ما استغفرتم الله وعدتم الى دين الحق والصراط المستقيم. بل على العكس، ستتنعمون برحمة الله وبركاته لاستجابتكم له، وسيعود لكم مجدكم وعزكم. فتحققوا فيما بين أيديكم من آيات كتابكم، وستجدون فيها ما يشير الى صدق دعوتي ويبشّر بحقيقة رسالتي.

* [قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ](47 النمل).
ولأن كل فكرة جديدة تحدث هزّة واضطراب وتعكر صفو وسكون ماء بحر عادات الناس وتقاليدها ومفاهيمها القديمة. كان جواب قوم ثمود، لقد كنا قبل ظهورك أمة متفقة على دين واحد ولنا شريعة واحدة وأحكام ثابتة، ولكن بظهورك، ظهرت بيننا مجموعة جديدة تتبعك وتدعو لأحكام جديدة مخالفة لما وجدنا عليها آبائنا وأجدادنا، وما نراك إلا السبب الأساس في هذا التفرّق والانقسام. فيجيبهم النبي صالح: أن ما يحصل في أمتكم هو سنة إلهية دائمة لا تغيير ولا تبديل لها، وهذا ما كان يحصل بين أمم أصحاب الكتاب على الدوام، وما هذه الحالة إلا امتحان لحقيقة أيمانكم ليفرز المؤمن من المعاند بينكم.
* [وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ] (48 النمل).
بعد أن يوضح سبحانه وتعالى ما يحدث لأمم أصحاب الكتاب حال ظهور رسول بينهم، وكيف ينقسمون الى فريقين، فريق قليل العدد يسمع ويطيع ويخشع، وفريق كبير العدد يتعصب ويصد ويغلو في دينه. يعود في هذه الآية الكريمة ليوضح حالة أمة ثمود آنذاك، حيث نفهم أن قوم ثمود كانوا منقسمين الى تسعة مذاهب أو تسعة شيع في زمن ظهور النبي صالح(ع)، ومن المؤكد أن أتباع كل واحد منها كانوا يظنون أنهم على طريق الحق والصراط المستقيم، كما هو الحال اليوم مع مختلف المذاهب والنحل لمختلف الأديان. لكن الحقيقة، وحسب منطوق الآية الكريمة، كان أتباع جميع تلك النحل يجهلون أنهم مفسدون للدين وكافرون بحقيقة ما بين أيديهم من دين الحياة الدنيا، وأنهم جميعا يقودون الناس الى طريق الكفر وسوء السبيل ويخربون عقولهم ويمنعونهم من دخول جنة دين الله الجديدة حالما أمر الله بنسخ جنة شريعتهم. ولقد سبق وقلنا أن رجال الدين ومذاهبهم يكونون أعلام هدى ونجوم رحمة وأيمان وكواكب تقوى واطمئنان، عندما يكون دينهم حيّ فاعل. أما عندما يأمر سبحانه وتعالى بنسخ شريعتهم وينزل جنة شريعة جديدة، عندها تنقلب أحوالهم على العكس تماما، فيمسون أعلام ضلالة ونجوم ضياع للناس ولأتباعهم.

* [قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ](49 النمل).
تذكرنا هذه الآية الكريمة، بما أجمع عليه رؤساء القبائل العربية المشركة، حينما تفتقت عقولهم عن فكرة شيطانية وحزموا أمرهم على اختيار رجل واحد من كل قبيلة، ليقتلوا سيدنا محمد(ص) في ليلة دهماء، وكيف فشل مخططهم بحلول موعد هجرته الى المدينة المنورة. كما تذكرنا وتؤكد لنا ان قوم ثمود كانوا يؤمنون بالله وأن لهم دين وشريعة سماوية ولم يكونوا من الملحدين الكافرين، بدليل أنهم يقسمون ويحلفون بالله، وهذا ما سبق وأشرنا اليه.
وعلى سبيل العاجزين ووسيلة الضعفاء، لما لم يجد كبار علماء مذاهب ملة ثمود طريقة مقنعة أو حجة دامغة أو دلائل ساطعة في كتبهم تمكّنهم من دحض وتكذيب النبي صالح وشريعته، وبعدما عجزوا من وقف انتشارها في أراضي قلوب العباد، وشاهدوا خطرها الداهم على مصالحهم، وتفرّق أتباعهم من حولهم وانضمامهم الى دين النبي صالح، ولما عرفوا أنه لن يمضي وقت طويل حتى تجف منابع خيراتهم وموارد غنائهم وثرائهم، وأنهم لم يتركوا سبيلا لوقف دعوة هذا النبي إلا وسلكوها. فلقد عارضوه وكذبوا دعوته واعتدوا عليه وعلى أتباعه وجاهدوا في سبيل دحض حججه وإطفاء أنوار تأثيراتها في عقول أتباعهم. هنا خطرت في أذهانهم فكرة شيطانية أخرى للتخلص منه ومن دعوته الى الأبد، لذلك فكّروا بقتله والتخلص منه وبذلك استعجلوا بالسيئة قبل الحسنة.
فلقد اتفق رؤساء مذاهب قوم ثمود التسعة القائمين على شؤونها، على اغتياله وآل بيته بيد مجموعة من أشداء رجالهم. وإذا ما سئلوا عن الفاعل أو اتهموا بهذه الجريمة فيما بعد، فسيقسمون بالله ويحلفون بمقدساتهم أنهم لم يشاهدوا من فعلها، فيكونوا صادقين في قسمهم، لأنهم خططوا وتآمروا وحرضوا فقط، أما عملية القتل فقد تمت بأيدي غيرهم.
فيا سبحان الله ويا قدرته وعلمه وقوته وعظمته، فهذه السورة الكريمة (سورة النمل)، نزلت في مكة (مكّية)، وهي تكشف عن معجزة إلهية ما زالت مدوّنة تسطع بأشعتها الباهرة من كتابه الكريم، وتذكّرنا بها أيضاً ما سردته كتب التاريخ من أحداث وأسباب لهجرة الرسول الكريم، وتكشف عن قدرة الله سبحانه وتعالى في معرفة أسرار نفوس البشر وطرق تفكيرهم وما يتهامسون به في ظلمات الليالي وزوايا مساكنهم البعيدة. وهذه الآيات الكريمات تكشف أن ربّ العباد وعالم الغيب قد أخبر رسوله الكريم ونبيّه العظيم والمصطفى المختار مسبقا بما يخطط له كبار رجالات قريش وما يتآمرون به على نفسه الكريمة وأنه حذّره منها، وكيف نجّاه من خطر ذلك المخطط الشيطاني بطريقته الإلهية العجيبة. ومن المؤكد أن عرب الجاهلية لم يدركوا أنهم يكررون فعلة قوم ثمود الشنعاء، وأن هناك وقبل آلاف السنين من أقدم على ذات فعلتهم الشريرة. فها هو رب العباد يعيد ذكراها في قرآنه الكريم، لما لها من تأثير خطير على ذاته المقدسة وعلى رسله الكرام وعلى عباده المؤمنين.
* [وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ](50 النمل).
قد يستغرب البعض لكلمة المكر، ويتعجب كيف يستعملها رب العزة وينسبها الى نفسه المقدسة! فلو تذكرنا قوله الكريم (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)(54 آل عمران)، وبحثنا عن أصل الكلمة، لوجدنا أن لها معنى آخر، هو الصبغة والطلاء، وبهذا يكون لها استعمالان اثنان، الأول هو المكر والخديعة، والثاني هو الصبغة والطلاء، وبهذا نفهم أن الله سبحانه وتعالى يستعملها بمفهومها الشائع عندما يتكلم عن الكافرين، بينما يستعملها لذاته المقدسة بالمفهوم الثاني.
لكن الله سبحانه وتعالى كان لقوم ثمود ولمكرهم بالمرصاد، فلم يستطيعوا إطفاء نوره، لا بقوة اليد ولا بقوة الكلام أو الدلائل؛ ولأنهم كانوا كافرين، لم يفهموا قدرة الله على حفظ دعواته السماوية ولم يدركوا طريقته في هداية البشر وكيف يصطبغ عباده بصبغة الدين ولون الأيمان، كما سبق وحصل لاحقاً عندما أنقذ سيدنا موسى(ع) من يد فرعون وقومه، وأنقذ سيدنا المسيح(ع) من يد اليهود، وحفظ سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام من يد المشركين ونجّاه من مؤامراتهم وممن ساندهم من أصحاب الكتاب، وكما قال تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(32 التوبة).
* [فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ] (51 النمل).
ولأنهم أصروا على المعاندة والكفر، لاحظوا أيها الناس كيف انتهت أمتهم وحضارتهم، ومحي رمزهم وتشتت شمل شعبهم وتغلغل بين شعوب الأرض، فلم يبق لهم ذكر ولا ركز. فهذا عقاب الله لكل أمة تكفر برسولها.
وهذا ما ينبهها الى ما حصل لأمة العرب المشركين من أهل الجاهلية ويفسر ما كان يحدث للأمم في قديم الزمان. فعلى النقيض من قوم ثمود، استجاب العرب للأيمان بدين الاسلام، ولو بعد عناد ومكابرة وقتال ونزال. فمن كفر منهم ولم يؤمن أو بقي منافقا يظهر أيمانه ويكفر في قلبه، فهذه الفئة الكافرة المنافقة لم يطمس الله بهم الأرض ولم ينزل عليهم نارا مشتعلة من السماء ولم تتلقفهم الطير، ولم يحدث لهم أي شيء من هذا القبيل أو ما شابه؛ بل بقي وعاش وأكمل المؤمنون والكافرون والمنافقون حياتهم على الأرض، وبالتدريج ورويدا رويدا ازداد عدد المسلمين وانتشرت عقيدتهم بين الأمم وجازاهم الله بخلق أمة عظيمة وحضارة راقية بعد أيمانهم بعشرات السنين، وهذا ما سبق وأشرنا اليه في تأثير الأيمان على حياة البشر ومجتمعاتهم. بينما اختفى العرب المشركين بالتدريج بالموت الجسدي أو بتحول أولادهم وأحفادهم الى الأيمان فيما بعد.
* [فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ](52 النمل).
فلاحظوا ما بقي من آثار قوم ثمود وما تركوا من عقيدتهم ودينهم حتى اليوم. فلقد خلت مساكنهم القائمة وقصورهم الشامخة من ساكنيها بالتدريج، لأسباب عديدة منها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والجغرافية والمناخية، تسبب في تدبيرها رب العباد بحكمته البالغة، هذا بالاضافة الى قوة تأثير ظهور حضارة أمة مؤمنة جديدة غيرها، أصبحت مع مرور الوقت محط أنظار الأمم من حولها عندما استقطبت اهتمام الناس بمنجزاتها. فتركوا ما نحتوه من بيوت في جبالهم ليكون أطلال خربة ومأوى للكواسر والجوارح والزواحف، يتردد فيها صدى البوم وتنتشر فيها بيوت العناكب. أما مساكن عقيدتهم وقصور أيمانهم وقلاع هداهم المعنوية الروحانية، فلقد استفرغت من عواميد الايمان وجدران التقوى وجفّت عيون وآبار عقيدتهم ولم يعد يتبعها أو يؤمن بها أحد. وما كل هذه القصة، إلا ليتعظ بها من كان له عقل ويتأمل سنة الله وحكمته.
* [وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ](53 النمل).
وكما سبق ونجى الله نبيّه نوح(ع) ومن ركب معه سفينة أمره ومركب دينه من المؤمنين، فلقد نجى من آمن من قوم ثمود بدين صالح(ع) ومن أناب الله عن نفسه وقلبه وأسلّم له أمر عقيدته وركب معه ناقة شريعته ونهض للمهاجرة من أرض جنة دينه الجرزة الى جنة أرض دين صالح(ع) الغنية الخصبة، وبهذا بقي ذكرهم الطيب في الأرض، ونمت بذورهم الطاهرة لتخرج منها أشجار أمة مؤمنة. واستمر ذكرهم كمؤمنين بين الناس وفي السماء عند رب العالمين. وهذا هو مصير صحابة المؤمنين بأوامر الله في كل زمان، يصبحون خميرة أيمان طاهرة للأمة التالية، فيذوبون داخلها بعد أدائهم أدوارهم ومهامهم المقدسة وإكمالهم ما أمرهم الله به في زمانهم، لأنهم كانوا أصحاب شريعة سماوية حيّة فاعلة، بدليل قوله تعالى (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)(18 الرعد).
Powered By Blogger