Friday, July 11, 2008

تأملات روحانية مع سيفى سيفى

تأملات روحانية مع سيفى سيفى

ونتابع مع ناقة النبى صالح(ع)
(7)
وفي سورة فصّلت:

* [وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ](17 فصلت).
من الواضح أن الآية لا تعني أن قوم ثمود كانوا فاقدي حاسة البصر، وكان الله يردّها ويعيدها اليهم، فيرفضونها ويفضلون العمى عليها. فليس من المعقول ان يكون شعباً بتمامه عمي العيون وعلى هذه الدرجة من الغباء والجهل. لكن المقصود أنهم اصبحوا في نهاية حياة شريعتهم عمي البصيرة مبتلين بظلام القلوب والأفئدة مفضلين الكفر والضلالة والتمسك بما بين أيديهم من عقيدة قديمة توارثوها عن آبائهم وأجدادهم، على الايمان بالشرع الصحيح ومخافة الله وطاعته، فما كان جزاء عنادهم وتعصبهم وجهلهم وكفرهم، إلا غضب من الله وعذاب شديد وخزي وهوان وذلة بين بقية الأقوام.
أما في سورة القمر:

* [كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ](23 القمر).
من معاني (النذر) هم رسل الله، كما قال تعالى في خاطبه لسيدنا محمد(ص) (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ)(89 الحجر).
فقوم ثمود لم يصدقوا مثل من سبقهم ومن تلاهم، ما جاءهم في كتابهم السماوي من إنذارات وتحذيرات من الشرك بالله
والكفر برسوله صالح(ع)، فلقد ظنوا أن لا رسول بعد رسولهم ولا كتاب
.
* [فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ](24 القمر).
واستنكروا أن يظهر بينهم رجل واحد يدعوهم لعبادة الله الأحد ويوحدهم على صراط إلهي فريد، لأنهم كانوا قانعين بتعدد مذاهبهم وكثرة رموز رجال دينهم ومنشغلين بتتبع ما بين أيديهم من تفاسير عقيمة، لأنهم يظنون أنهم على دين الحق الأزلي وأنه لن ينسخ أبدا، حتى وإن ظهر بينهم كل هذا الاختلاف والتعدد في المذاهب والشيع. وكانوا يظنون خطأً، أنهم إذا تركوا ما يعتقدون ويؤمنون به وتحولوا عن دينهم السماوي وابتعدوا عن رجال دينهم الذين فتحوا عيونهم على وجودهم وتربوا على احترامهم وتقديرهم وتبجيلهم، وآمنوا بدعوة صالح(ع)، فسيكونون من الكافرين بالله وسيضلون عن سواء السبيل ويكون مستقرهم جهنم وبئس المصير.
* [أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ](25 القمر).
وتعجبوا وراحوا يتساءلون: هل من المعقول أن يختار سبحانه وتعالى رجلاً منهم ليس بذي شأن، ويترك كل هؤلاء
العلماء والفضلاء الممسكين بزمام أمور دينهم؟ فهذا ما لم يسمعوا به من قبل ولم يذكر في بشارات وآيات كتابهم. لذا ظنوا أن النبي صالح(ع) ما هو إلا كذّاب كبير أو ساحر محتال، كما حدث فيما بعد مع سيدنا محمد(ص)، عندما لم يصدّق اليهود والنصارى ما نزل عليه من سماء فضل رب العالمين، بعدما كانوا يظنون أن موعودهم ورسولهم القادم لابد وأن يظهر من بينهم، وليس من أمة أخرى معروفة بالجهل والتخلف، قال تعالى
(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(31 الزخرف).
* [سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنْ الْكَذَّابُ الأَشِرُ](26 القمر).
من الوارد ان يكون لكلمة (غَدًا) معاني عديدة، منها: ان النبي صالح(ع) يشير الى أن حقيقة أمره وصدق دعوته ستتضح في مستقبل الأيام، أو عند ظهور رسول لاحق آخر يصدق دعوته، لأن من مهام كل رسول كريم تصديق من سبقه والتبشير بمن سيليه، كما قال تعالى على لسان سيدنا عيسى(ع) (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)(6 الصف
).
ومن معاني كلمة (غَدًا) أيضا، هو يوم الدين التالي الذي سيظهر بعد دين صالح(ع)، لأننا علمنا أن عمر ومدة كل دين أو شريعة، يحتسب عند الله بيوم كامل، فمثلما يكون لليوم الزماني تغير وحالات، كذلك هو يوم الدين، فيه وقت شروق الرسالة وبداية استضاءة العباد بها، ووقت ضحى شمسها وبداية حرارة الأيمان والعقول والأرواح، ثم تحول وانتقال الى مستوى السمت فوق الرأس، وهذا دليل الوصول الى أرقى شؤونها الروحانية وقمة رأس حضارتها الاجتماعية. ثم يأتي دور الهبوط وعصر تدني حرارة أيمانها، فتبدأ بالانخفاض في قلوب أتباعها، وتنتشر الظنون الواهية والأفكار البالية بين معتنقيها، وتستمر في الهبوط حتى تنتهي الى الغروب والزوال. عندها تظلم سماء أحكامها ولا تعد تعطي ضوء هديها إلا لمن يختاره الله برحمته الواسعة، فإذا خليت خربت. في تلك الفترة، لا يعد يعرف أتباعها بمن يستظلون ويقتدون. وبما أنهم لا يجدون في زمن ليل شريعتهم إلا نجوم رجال دينهم، ينجذبون اليهم ويتعلقون بأذيالهم ويهتدون بهديهم. وبعد انقضاء فترة الظلام مهما طالت وامتدت، يظهر في السماء نجم بشارة هدي جديد يبشر بقرب بزوغ شمس الهدى مرة أخرى، ويظهر على الأرض نجم رجل مبارك يبشر الناس بقرب سطوع شمس الرسالة والرسول الجديد، فيعلنان معاً انتهاء يوم دين سابق وبزوغ فجر يوم دين لاحق. وهكذا استمرت أديان الله تتنزل على العباد طالما أن الله سبحانه وتعالى خالد أبدي سرمدي وخلقه موجود باق، حيث لا يمكن ان يكون هناك خالق بدون خلق، ولا مبدع بدون إبداع ولا معبود بدون عابد ولا مشكور بدون شاكر. فلابد من وجود الخلق حتى يعرف الخالق، كما قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)(56 الذاريات).
* [إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ](27 القمر).
من معاني كلمة (فِتْنَةً) هو الامتحان، وكذلك كل ما يفتن الناس ويمتحنهم ويزلزل أفكارهم ومعتقداتهم، فلا يعودوا يعرفون الحق من الباطل. وهذا ما كان يحدث بالضبط عند بزوغ شموس الشرائع السماوية السابقة أو عند ظهور أنوار رسل الله، لأن الناس كانوا ينقسمون آنذاك الى فريقين، فريق يضم الغالبية ينادي بضرورة التمسك بدين آباءهم وأجدادهم، لتأكدهم ووثوقهم من صدقية تعاليمهم وكتابهم القديم، وفريق يضم أقلية تصدق الديانة الجديدة وتثبت عليها وتفدي النفس والنفيس في سبيلها.
ومن معانيها أيضا: الرسول والرسالة والشريعة والدين، كما قال تعالى
(وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا)(20 الفرقان)، فالخطاب هنا موجه لسيدنا محمد(ص)، وسبحانه وتعالى يصفه وجميع الرسل الكرام بالفتنة، لأنهم يفتنون الناس بدينهم السابق ويمتحنون صدق أيمانهم بفتنة أديانهم التالية. وكذلك قوله الكريم (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ)(17 الدخان)، فسيدنا موسى(ع) كان فتنة لقوم فرعون الذين فتنهم الله بدعوته وامتحن حقيقة أيمانهم، فأرسل الكافرون الى جهنم عذابه بعدما أغرقهم بمياه آيات كتابه، واصطحب المؤمنون الى جنة دينه الجديد بعدما عبر بهم بحر الكفر ونقلهم الى أرض الأيمان. وما ظهور ناقة شريعة صالح(ع) إلا امتحان لقوم ثمود وفتنة لهم، ولمن عاش في زمانهم من أتباع الشرائع السابقة لهم، ليتبين المؤمن الحقيقي من مدعي الايمان الكاذب بينهم.
أما كيف يكون فرعون وقومه من أهل الكتاب وأصحاب شريعة سماوية؟ فالله سبحانه وتعالى لم يترك هذا الأمر المهم دون أن يعطف عليه ويذكره باشاراته اللطيفة الإعجازية. قال تعالى
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ)(26 غافر)، فكلمة (دِينَكُمْ) فيها إشارة واضحة لاعتقاد قوم فرعون بدين سماوي. ولقد كان من قدرة القدير، ان يستعمل كلمة أخرى غيرها ليشير الى معتقدات فرعون وموروثات قومه، بدليل قوله تعالى (قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(28 الزمر). ففرعون كان يتبع ديناً سماويا من عند الله، بدليل أنه يحذر قومه من تبديل دينهم وعقيدتهم، فهو يخاف أن تكون دعوة سيدنا موسى(ع) باطلة، وبدلا من استمرار قومه على التمسك بدينهم السماوي وأحكام شريعتهم الإلهية، ينقلبون ـ حسب ظنه ـ الى اتباع دعوة رجل مدّعي كاذب لم يشتهر بينهم لا بالعلم ولا بالمعرفة ولا بالدين؛ بل يشتهر بقتل نفس. وبهذا ينتشر بينهم الفساد والكفر.
ومن الأدلة على صحة هذه الفكرة، ما تم اكتشافه مؤخرا من تفاصيل حياة الفراعنة ومعتقداتهم، وكيف كانوا يحنطون موتاهم ويدفنون حليّهم وأدواتهم معهم، ظنّاً منهم أنهم سيعودون لهذه الحياة أو أنهم سينتقلون الى حياة أخرى فيستفيدون من لوازمهم. ففكرة البعث والعود والخلود كانت منتشرة بينهم ولو بتلك الطريقة البسيطة، ومثل هذه المعتقدات الروحانية ليس لها مصدر أو منبع إلا أديان الله وشرائعه ورجاله المقدسين.
وهناك آية كريمة أخرى تبين أن فرعون وقومه كانوا من أصحاب الكتاب، وهي
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(11 التحريم).
فنفهم من معانيها أن امرأة فرعون كانت تعرف الله وتعلم أن هناك جنة له، وبهذا فهي تعلم أن هناك جهنم، وبهذا فهي تدرك أن هناك أيمان وكفر، وهذا يثبت ان فرعون وقومه كانوا يتبعون ديناً سماويا قديما من عند الله قبل ظهور النبي موسى(ع) بينهم، وإلا من أين جاء أيمانها بكل هذه الأمور المعنوية والدينية، وكيف ارتضت بفرعون زوجاً لها، إن كان لا يؤمن بالله؟ لكنها بعد أيمانها بدين موسى(ع)، أدركت الفرق بين معتقدها الجديد وبين معتقد فرعون زوجها. وبما أن ملوك وأباطرة الأمم الشرقية في قديم الزمان، كانوا يمثلون ويملكون السلطتين الدينية والدنيوية، يتضح من هذا أن فرعون كان رجل دين ودنيا معاً، وأنه مشى على خطى من سبقه من رجال أديان أمم أصحاب الشرائع القديمة الذين كان ديدنهم على الدوام معارضة رسلهم وصدهم. لذلك عارض فرعون، رسول الله موسى(ع)، إما بسبب الجهل رغم اشتهاره بالعلم، أو بسبب التعصب والغلو في محبة دينه. وهذا يعيدنا الى صحة النظرية القائلة بسرعة أيمان بسطاء القلوب والسريرة من الفقراء والمستضعفين قبل علمائهم ورجال دينهم الذين يعجزون عن عبور عوائق العلم وجدران المعرفة، والمصطبغة قلوبهم بصبغة العناد والتعصب.
فامرأة فرعون عرفت الفرق بين الدين الحق الجديد والدين الباطل القديم المنسوخ، وتقدمت للأيمان برسالة الله حال نزولها على سيدنا موسى(ع)، وتركت دين آبائها وأجدادها حال إشراق شمس الحق من أفق الرسالة الموسوية واعتنقتها، وقالت على الفور: ربي إني قد تركت جنة دينك القديم بعد نسخها، وها أنا أتقدم للأيمان بجنة دينك الجديد، فابنِ لي عندك في أرض جنة دينك الجديد بيت أيمان جديد، وأقبل مني زكاة أيماني وهجرتي إليك، وساعدني في فهم شريعة موسى، ونجني مما يتبعه فرعون زوجي وما يأمر به من كفر بدعوة رسولك، وأخرجني من ملة الكفر الذين ظلموا أنفسهم ويظلمون أتباعهم بالكفر والعناد والصد عن سبيلك المستقيم.
نعود للآية الكريمة مورد البحث، فالنبي صالح(ع) لابد وأنه أدى مهمته السماوية على أكمل وجه وبذل جهده وكل ما في وسعه لدعوة قومه الى الله والايمان برسالته، ولم يترك سبيلا إلا وطرقه، بدليل قوله تعالى حينما أشار الى النبي نوح(ع) وما عاناه في سبيل تبليغ دعوته الى قومه
(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا . فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَاراً . وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا . ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا . ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا)(5-9 نوح).
لذلك نزل الأمر الإلهي على النبي صالح(ع) بترك الكافرين من قوم ثمود وشأنهم والنظر الى عاقبتهم. فمن آمن، فالله عليم بذات الصدور، ومن
كفر فجزاءه عند ربه أسوأ العقاب. كما قال تعالى في أمره لسيدنا محمد(ص)
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(125 النحل)، وكذلك قوله الكريم (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(29 الكهف).
* [وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ](28 القمر
).
وبعدما علمنا أن الكلام في الآيات المباركة السابقة وحسب تسلسلها كان عن الأيمان والأيقان والخشوع والخضوع، إذن لابد أنه لا يخرج عن هذا السياق والنطاق الديني. وقد سبق وذكرنا أن من معاني كلمة (الْمَاءَ) التي ترد في آيات الذكر الحكيم بالاضافة الى معناها العام الشائع، هي ماء الآيات الإلهية وزلال السـور الزكية وفرات الرحمة الربانية التي تهبط مع نزول كل شريعة سماوية من سماء فضل الله لتسقي أشجار أرواح العباد حتى تثمر بفواكه الأعمال الصالحة. فمثلما يروي هذا الماء المادي كل ما هو حيّ من مخلوقات أرضية، حسب قوله تعالى (وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)(30 الأنبياء)، كذلك هو الماء الرباني يسقي أرواح وعقول وقلوب كل من يقبل الى الله ويؤمن بأديانه المقدسة ليظهر من تراب أرض قلوبهم وعقولهم أزهار الحكمة وأثمار العلوم والمعارف، كما قال تعالى (إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ)(11 الأنفال)، فماء الأمطار لا يطهّر الناس ولا يذهب عنهم رجز الشيطان ولا يربط القلوب ولا يثبت الأقدام. بل هي مياه الأيمان ومياه الأديان وزلال رحمة رب العالمين وفرات النعم والبركات الإلهية، فهي التي تطهر الناس وتذهب عنهم رجز الشيطان وتربط قلوب المؤمنين وتثبت أقدامهم على صراط الله المستقيم. وبهذا فالآية الكريمة لا تتكلم عن هـذا المـاء الجاري فقط، بل تتكلم أيضاً عن زلال ماء الآيات وفرات الأيمان. فيكون من معاني الآية:ـ
أخبرهم يا صالح(ع) أن ماء الغيث الإلهي يُقسَّم بين أمم أصحاب الكتاب بنسب ومقادير متفاوتة محددة، كل أمة لها مقدار معين من ماء شريعتها، يبدأ في لحظة محددة وينتهي في يوم من الأيام. وحالما يحين موعد جفافه واحتضاره ينزل ماء شريعة سماوية جديدة على البشر، كما قال تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (34 الأعراف). فمهما حاولتم يا قوم ثمود، التشبث بماء دينكم وحافظتم عليه وزدتم في تعبدكم وغاليتم في أداء فروضه وواجباته، فلابد أن يأتي اليوم الذي تنسخ فيه شريعتكم وينتهي مفعولها ويجف ماء أيمانها فلا تستطيعون له وصولا.
* [فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ](29 القمر).

هذه الآية الكـريمة تشير الى صلب الموضوع وبيت القصيد والى أهم أسباب اعتراض الناس على رسلهم الكرام، وتفصح عن حقيقة مصدر مهم من مصادر الاعتراض والعناد والصد والنكران ومحاربة الله ورسله الكرام.
فكل أمة تلتجئ في ملماتها وخطبها الى رجال دينها وكبار أحبارها لتسألهم عن أمور دينها ودنياها إذا ما استعصى عليها أمرا من أمورها الروحية أو الاجتماعية، خاصة في قديم الزمان. ومن أهم المعضلات التي واجهت عباد الله، كانت مشكلة التمييز بين رجل الدين المؤمن الموقن داعي الحق الحقيقي، وبين مدّعي الدين المزيف القشري وساحر العقول. لذا كانوا بمجرد سماعهم بنبأ ظهور دين جديد وشمس رسول جديد أو نبيّ من الأنبياء، يهرع الأتباع والمريدون الى أولياء أمور دينهم طالبين المشورة والهداية باعتبارهم أصحاب الاختصاص في هذا المجال. وهنا يكون الخطأ الجلل والداهية الدهماء. فإذا كانت الشريعة ما زالت حيّة فاعلة، يكون الناس كمن يطلبون الهداية والاستنارة من
أنوار نجوم الهدى وكواكب التقوى، كما قال تعالى (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)(73 الأنبياء). أما إذا كانت شريعتهم قد ماتت بنزول شريعة جديدة وهم غافلين عن ذلك، فيظن رجال الدين المفسدون، أنهم باقون على عهدهم، ومازالوا كما كانوا مصلحون. لكنه سبحانه وتعالى يوضح هذه النقطة الخطيرة ويبيّن لعبـاده كيف ينقلب شـأن هؤلاء من نور نهار الى ظلمة ليل، ومن هدي مبارك الى ضلالة مغضوب عليها، وكيف يستطيع العباد التمييز بين فريقي المصلحين والمفسدين، كما قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(11 البقرة)، لأن أتباعهم يكونون كمن يطلب الهداية ممن لا هداية له وعاجز عن مساعدة غيره، كما قال تعالى (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا)(3 الفرقان)، وكما قال تعالى (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ)(41 القصص).
ومع كل هذه المعضلات وهذه الفتن والامتحانات، قد يتساءل البعض: كيف يمكن للانسان البسيط أن يميز مكانه ودوره وطريقه ويعرف الحق من الباطل وينجو من نار غضب الله ويدخل جنة رحمته ونعيمه؟
لم يترك الله عباده لأنفسهم يحتارون في مثل هذه الأمور الخطيرة، إذا ما حان أجلها وأزف موعدها، فلقد ترك علامات واضحة وآثاراً مكشوفة لخلقه لمعرفة وتمييز مثل هذه الأزمان عند استعمال عقولهم والابتعاد عن التقليد الأعمى، كما قال تعالى
(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)(117 هود)، ففي هذه الآية الكريمة، قانون إلهي عام يوضح ويكشف لجميع الخلق مهما تباينت درجات ذكائهم ومستويات عقولهم، أن بإمكانهم تمييز هذه العلامات الفارقة. فالآية الكريمة تعلن أن شرط الهلاك وبداية زمن النهاية، هو انقلاب أحوالهم وتفشي السيئات وانتشار الشرور بينهم، وعجز رجال الدين المصلحون على أداء أدوارهم الروحانية، كما أيد ذلك قوله تعالى (مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(15 الإسراء)، فمن ثمارهم تعرفونهم، فلا تطرح شجرة الشوك أو الحسك تيناً أو عنباً.
لذلك فالآية الكريمة تقول أن قوم ثمود بعدما سمعوا بظهور شريعة صالح(ع) الجديدة بينهم، توجهوا الى كبير رجال دينهم الذي يصفه سبحانه وتعالى (بأشقاهم) ليسألونه عن حقيقة الأمر، وبما أنه كان في جوهره رجلاً غافلاً عن بشارات كتابه وجاهلا بجواهر أسراره، فقد تبينت قشرية علومه وسطحية مفاهيمه حالما أفتى بكذب دعوة النبي صالح(ع) وحكم ببطلان معتقدها وقيامه على تحذير الناس من مغبة الايمان بها، فهي حسب ظنه دعوة باطلة وطريق ضلالة وكفر، ونصحهم بعدم ترك دين آبائهم وأجدادهم الذي أجمعت الأمة على أحقيته وقدسيته وضرورة التشبث به
.
* [فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ](30 القمر).
ويبدو أنه كان هناك صدى واسعاً لنصائح (أشقاها) بين قومه، فلقد تبعه غالبية مريديه وصدّقوا أقواله، لأن هذه الآية الكريمة تفصح ان عذاب الله قد نزل بقوم ثمود بعدما تبعوا (أشقاها) وكذبوا نبيّهم صالح(ع)، وبهـذا تكون أمتهم قد أجمعت على الخطأ والباطل، واتفقوا على الكفر والضلالة، وبالتالي كان ويكون هذا التصرف مغناطيس غضب الله ونقمته.
* [إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ](31 القمر).
فلقد كانت لحظة نطق صالح(ع) بعبارة: أني رسول من عند الله. هي لحظة البدء بنزول العذاب الإلهي وهي لحظة الاعلان عن انتهاء عمر شريعة قوم ثمود السابقة ونسخها، وهي الشرارة الروحانية التي تحولت فيما بعد الى نار مستعرة أكلت وجودهم. ومنذ تلك اللحظة، لم يتبق من عقيدتهم ولا من دينهم، ما ينفع الناس في حياتهم أو يصلح لبناء بيوت أيمانهم وقلاع تقواهم، فلقد دخلوا أول فترة الموت والاحتضار، وما هي إلا مدة محدودة مهما امتدت وطالت، حتى انتهى أمرهم وزال ذكرهم ومحيت عقيدتهم وحضارتهم وآلت الى فناء.

No comments:

Powered By Blogger