نظرة على قصة سيدنا نوح وسفينته
لنتناول قصة سيدنا نوح(ع) باسلوب
جديد ونحاول مطابقتها مع ما يتقبله العقل والمنطق السليم، بعيداً عن ظواهر معاني
كلماتها وما يتناقله الناس فيما بينهم من أفكار لا تتفق مع ما وصلت إليه البشرية
من تطور وعلوم. وقد سبق وقلنا أن الكلام الإلهي لابد أن يتوافق مع العلم، فهما
جناحين لطائر البشرية، بينما أحداث ورموز قصة النبي نوح(ع) لا تتفق مع العقل
السليم وما زالت بحاجة الى استنباطات جديدة تخرجنا من مفاهيمها السطحية التي بقينا
نتعامل معها بشكل بسيط لقرون طويلة.
لنعتبر السفينة التي كان يصلحها ويعمّرها سيدنا نوح، هي ليست من السفن
العادية المكونة من خشب ومسامير وقير وقماش ودفة وأشرعة وسواري وملاحين وقبطان
وغير ذلك. فإذا ابتعدنا عن هذه الفكرة المادية القديمة، نخرج بأحداث قصة أخرى
مختلفة تماما، وإلا فبقية أحداث القصة القديمة وتفاصيلها المسلية التي يرويها
الأهل والأجداد، تثير العجب والاستغراب، حيث يقال انه جمع في سفينته زوج من كل نوع
من المخلوقات، ذكر وأنثى؛ ولا يخفى على أحد، كم تحتاج هذه العملية من وقت طويل قد
يستغرق سنينا عديدة قبل تحقيقها، كما انها ليست بالعملية السهلة اليسيرة،
والحيوانات بحاجة الى علف وغذاء وحراسة ورعاية، بل هي مستحيلة التحقق، إذ لا يمكن
حجز جميع هذه المخلوقات وتجميعها في مكان محدد وسفينة واحدة وبينها وحوش كاسرة
مفترسة وحيوانات أليفة، بينما سيدنا نوح دائم السفر والتجوال يتسلق الجبال ويخوض
الوديان ويقطع الصحارى والغابات ويمخر عباب البحار ليصطاد ويجمع كل أنواع هذه
الحيوانات. ثم انه بهذا العمل الشاق يكون مشغولا تماما عن هدفه الحقيقي الذي ظهر
من أجله وأمره الله به، ألا وهو تبليغ أمر دينه للناس ودعوتهم للايمان به. فهو ليس
صياداً للحيوانات والوحوش ولا رحالة أو مستشرق يعلم بأنواع الحيوانات وأصناف
الطيور، بل نبياً يبحث عن طرائد العقول المنورة والقلوب السليمة.
من هذه الزاوية الجديدة، يمكن أن تكون قصة سفينة نوح المشهورة بين الناس،
قصة إلهية مجازية عميقة المعاني، يراد بها شيء آخر، وليست سفينة عادية ركابها
حيوانات وملاحيها مؤمنين وربانها نبي من عند الله.
لنفترض ان معنى السفينة هو (الديانة أو الشريعة)، ديانة وشريعة سيدنا
نوح(ع)، ولنفترض أن عمله وجهده في إعمارها وبنائها وتشييد هيكلها، هو حركته
الدائمة وانشغاله المستمر في تبليغ الناس أمره المبارك وتجميعهم للركوب على متنها،
ولنفترض ان الأرض أو الأراضي التي كان يبني فوقها سفينته، هي أراضي قلوب الكفار
والملحدين والمشركين بالله الواحد؛ وبمعنى آخر، هي أراضي قلوب قومه المترسخة فيها
جذور أشجار العقـائد القديمة البالية وأعجاز نخيل إلحادهم بجذورها الممتدة في
أعماق قلـوب آباءهم وأجدادهم منذ مئات السنين، وبيوت عقائدهم العتيقة المبنية من
خيوط أوهامهم العنكبوتية.
فلقد حاول هذا النبي تعمير بناء سفينة دينه الحق بكل الوسائل الممكنة بين
قومه وراح يبلّغ الناس الديانة الجديدة لعدة سنين ويدعوهم لركوبها، مرة بالمحبة
والترغيب وأخرى بالتحذير والترهيب، تارة بالوعود الإلهية الجميلة، وحيناً بتذكيرهم
بالدنيا وملذاتها الخادعة، وأخرى بالآخرة وحسناتها، وأحيانا بشرح فضائل الايمان
بالله وشريعته الجديدة. لكن الفشل كان سمة جهود هذا النبي الملاح المتتالية؛ أما
قومه، فبقوا على حالهم متمسكين بدينهم القديم دين آبائهم وأجدادهم ومتشبثين
بالمعتقدات السائدة بينهم لا يقبلون تركها والانفكاك عنها (فالناس على ما جبلوا
عليه)، وكانوا يضحكون ويسخرون من كثرة توسلاته ومناداته ومن إصراره على تعمير هذه
السفينة الإلهية وترتيبها وتزيينها في عيونهم، وادعاءه انها المنقذ الوحيد لهم من
فيضان ماء الانتقام الإلهي الجبار.
فلو افترضنا هذه الفرضية، لوجدنا تطابق أحداث هذه القصة القديمة مع العقل
والمنطق السـليم بشكل أوفق، حيث ان دين الله لا يبنى الا على اليابسة وبين الناس
وفي أرض مأهولة كما تصور ذلك الآيات الكريمة.
من هذه الفرضية - ولا نقول هذا التفسير - يتضح ان سفينة سيدنا نوح(ع)، هي
في حقيقتها، سفينة دينه وشريعته، وان عملية بنائها وتشييد هيكلها، هي بمثابة
مناداته وتبليغه للناس للايمان بهذا الدين وبناء مقوماته بينهم، وان دوافع سعيه
وجدّه في عملية التبشير والتبليغ كان بسبب إيمانه الثابت بانتصار أمر الله في
النهاية ونجاة كل من سيركب معه فيه ويتمسك بعروته الوثقى في الدنيا والآخرة، وأن
من أسباب استهزاء الناس به وبأمره، هو قلّة عدد المؤمنين والمصدقين من ذوي القلوب
السليمة، وكثرة عدد المعترضين والمعاندين من أصحاب القلوب الصخرية القاسية، ويقينهم
بانتصارهم في أي معركة أو مقابلة حربية بينه وبينهم.
لذلك فان معنى قوله بغرقهم في ماء الطوفان، هو محو ذكرهم من التاريخ وشطب
اسمهم من بين الأمم وحلول زمن نسخ شريعتهم القديمة وانتهاء دورها في تعليم البشر،
وان سفينة دينه هي السبيل الوحيد لنجاتهم من الموت كفراً والغرق في مياه الإلحاد
والكفر بالله.
أما عن ولده ومعنى بقاءه مع ملة الكفر المعارضين لدعوة والده، وعملية
التجائه الى جبل عال ليعصمه من الفيضان ثم الغرق (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ
يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ)(13)، فالمعنى هو أن الابن لم يصدق دعوة
والده، كما هو حال بقية قومه، ليقينه التام بقوة فكر شريعته القديمة وظنه ببقائها
وخلودها، وعدم قناعته بالدين الجديد، واعتقاده ان جبال علماء العقيدة القديمة، هم
خير حصن وأحسن ملاذ له، لأنه ظن أن دين قومه القديم هو دين الحق ولا غيره، وما
دعوة والده الجديدة، إلا دعوة باطلة مجنونة، مما دفعه الى اللجوء لأحد علماء الدين
السابق الكبار من الذين كانوا يعتبرون قبل دعوة سيدنا نوح، مثل الجبال الرواسخ
الكبيرة في العلم والمعرفة والإيمان؛ وفي الحقيقة ان علماء الدين يعتبرون جبالاً
راسخة في الدين والإيمان، فهم الذين يقودون الناس الى طريق الهداية والنور، كما
يشبهون في مواقع أخرى أيضاً، بالنجوم اللامعة في سماء الأديان، لأن الناس يستدلون
بهم في طريق الايمان والهدى ويحتمون بظلهم ورسوخهم ويتبعونهم في تفاسيرهم وفتاواهم
عندما يسود الناس ظلام الكفر والظلم، كما قال تعالى في تشبيههم (وَلَقَدْ أَضَلَّ
مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ)(1) وكذلك قوله
الكريم (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا
مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(2).
لكن هؤلاء العلماء ينحسر دورهم وتتراجع مكانتهم عند ظهور أي دين جديد، ولا
يصبح لهم شأن عند بزوغ شمس جمال الرسول أو النبي الجديد في كل عهد ودور، بل على
العكس يصبحون سبب الضلالة والتيه والخسران عند معاندتهم دعوات الرسل الجدد؛ مثلهم
مثل أغصان شجرة الدين، فإن نسخت وماتت الشجرة، ماتت الأغصان ولا تعد تصلح إلا
للنار.
لذلك طغت مياه الكفر والاعتراض والتصدي، وعلت فوق الابن وفوق أكبر رجل دين
في الديانة السابقة وأغرقتهما ومحيت آثارهما وآثار قومهما بمجرد ظهور سفينة دين
سيدنا نوح، ولم يبق من ذلك العالم الجبل أي ذكر في الكتب التاريخية القديمة، وان
من نجا من طوفان الكفر والإلحاد في تلك الدورة، هم فقط الذين تمسكوا بأذيال النبي
الجديد في زمانهم وآمنوا به وبدينه وصدّقوه وركبوا معه سفينة أمره المبارك ووصلوا
الى أرض النجاة والبقاء والخلود ودخلوا جنة مرضاة الله؛ وان ذلك الطوفان المتكرر
المتجدد مع ظهور سفينة كل دين جديد، ما هدأ الا بعد ان تم انتشار الأمر الجديد
ومحيت آثار الكفر، فنزل المؤمنون الى يابسة الايمان ليعمروا بيوت دين الله في
الأرض، حيث انتهى حال الكفرة الى الموت المادي والروحاني معاً، كما حصل لكل من كفر
بأي دين ظهر على الأرض قبل النبي نوح أو بعده، فبقي ذكر المؤمنين في الدنيا
والآخرة ومحي ومحق اسم الكفرة من كل ذكر خير بشأنهم.
أما النقطة المهمة الدقيقة والإشارة المعصومة في قوله تعالى (وَقِيلَ
يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ
الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ)(3)، فهي: نزول الأمر الإلهي الى أرض قلوب البشر بابتلاع ماء
أفكار كفرها التي طغت على حياتهم. وأمره للسماء السامية بالتوقف عن إنزال مزيد من
ماء الغيث السماوي أي مزيداً من مياه الأحكام والقوانين الإلهية لكفايتها وتمامها،
وذلك لتحقق الغاية الإلهية المقدرة، أي استقرار سفينة الدين على أرض قلوب
المؤمنين، وانتهاء تأثير أفكار القوم الكافرة لصد الدعوة الجديدة.
وبمعنى آخر: عودة مياه أفكار الكفر التي كانت سائدة آنذاك الى باطن أرض
قلوب البشر الجرزة، لظهور أرض قلوب أيمان جديدة خصبة بدلها مستعدة لاستقبال بذرة
الايمان الجديدة ورعايتها لتكون شجرة وارفة محملة بثمار الأعمال الصالحة.
أما أمره بتوقف نزول مياه التنزيل، فيعني تمام نزول الأحكام وكمال الشريعة
واكتمال انتشار الدين الجديد وترسخه في قلوب العباد واستقرار سفينة دينه على أرض
جديدة جيدة جادة جميلة.
أما الإشارة بعودة ماء الكفر الى داخل أراضي القلوب ودخوله فيها، فهو دليل
دقيق على عملية تكرار عودته والخروج والفيضان مرة أخرى من جديد عند انتهاء قوة
ديانة نوح وعودة أقوام الظالمين من بعادهم ونهوضهم من نومهم وسبات غفلتهم؛ فهو لم
يختف ولم يزول، بل غاض في أعماق أرض القلوب، ولم يذهب بعيدا ليخفي، بل استقر تحت
أقدام البشر، لينتظر فرصة تنقيبهم عنه بأيديهم وبرغبتهم ليفيض بينهم وعليهم مرة
أخرى بالتدريج ويعلو هاماتهم ورؤوسهم بعد زوال تأثير الإيمان الجديد.
1 – سورة يس آية 62.
2 – سورة الحشر آية 21.
3 – سورة هود آية 44.
No comments:
Post a Comment