نظرة عمليّة وتاريخية
دعونا نفحص وندرس عقيدة "خاتم النبيين" من الناحية التاريخية والاجتماعية والعملية. إن تطوّر الحضارة المدنية للجنس البشري حتى ظهور سيدنا محمد كان بطيئاً تماماً, ومع ذلك أرسل الله سبحانه وتعالى رسولاً جديداً كل 600 عام تقريباً وفي كل مرة بتعاليم جديدة للبشرية. فظلّ معدل تطوّر الحضارة أساساً على نفس المستوى لقرون عديدة. ولكن في أواخر القرن الثامن عشر بدأ العالم يتغيّر على نطاقٍ لم يسبق له مثيل من قبل. ومنذ ذلك الحين ما زال معدل التغيُّر في تسارعٍ, ولا يعرف أحد منّا ماذا يحمل لنا المستقبل. تخيَّل كيف تطوّر العالم منذ زمن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما كان امتلاك الرقيق وخاصة من النساء شيء مقبول ومتعارف عليه عند العرب ولم يمنع القرآن الكريم هذه الأعراف، بل يشير إلى هؤلاء النساء في عدة آيات قرآنية ولم يأمر الرجال بإلغاء هذه الأعراف والموروثات. قال الله تعالى فى القرآن الكريم:
لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا. سورة 33, آية: 55.
أنظر الآيات التالية: سورة 2, آية: 221 ؛ سورة 23, آية: 6 ؛ سورة 24, آية: 33-58 ؛ سورة 70, آية: 30
وفي الواقع، ظلت ممارسة امتلاك الرقيق عادة دارجة ومسموح بها قانونياً في العالم حتى منتصف القرن التاسع عشر. أما اليوم فيُعتَبر إمتلاك الرقيق غير قانوني حتى في الدول الإسلامية التي تمارس تعاليم القرآن الكريم حرفيًّا.
ولننظر أيضًا إلى عقاب السارق المذكور في القرآن الكريم:
" وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" سورة 5, آية: 38.
هل تمارس الدول الإسلامية هذه العقوبة الآن؟ ماذا عن العقوبة المعينة للذين يرتكبون الزنا أو الخيانة الزوجية ؟
فلننظر أيضًا إلى عقاب الزنا المذكور في القرآن الكريم:
"الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ". سورة 24, آية: 2.
دعونا نتأمل القوانين والتعاليم الاجتماعية الأخرى في القرآن الكريم والتي لم تَعُد تُطَبَّق على نطاق واسع. إن إحدى دعائم الحضارة هي البنوك، والبنوك في الدول الإسلامية تنمو وتزدهر مثل البنوك في الدول المسيحية، ومع ذلك القرآن الكريم يمنع إعطاء أو أخذ فائدة لمن يستعير أو يستثمر المال.
لنقرأ ما أنزله الرحمن فى القرآن:
"الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ". سورة 2, آية: 275.
وأيضاً إن مسألة تعدد الزوجات، كونه مسموحاً في القرآن الكريم بل إنه مشروط بالعدل ولكن قد تم التخلي عنه ، فأصبح الزواج عكس ما جاء في القرآن، فحلل رجال الدين لأنفسهم أكثر مما حلل الله لهم بنفي وتغيير كل الأخلاقيات والمبادئ الدينية. فقد تفرّع الزواج إلى مسميات عديدة منها: المسيار، العرفي، المتعة، المسفار...إلخ. وأصبحت التعاليم المذكورة في القرآن الكريم مهجورة أو مهملة في الوقت الحاضر، سواء أكانت لأسباب الإنحطاط الخلقي أو لعدم تأثيرها على العباد، فكيف يمكن لهذه التعاليم المذكورة في القرآن تلبية الاحتياجات الاجتماعية في المستقبل لملايين السنين ؟
إن التغيير هو إحدى الملامح الأساسية للكمال. ففي خلال الثلاثة وعشرين سنة لرسالة سيدنا محمد عليه السلام ورغم قصر مدتها ولكننا نرى بأن الله سبحانه وتعالى غيَّر بعض الاحكام والتعاليم الاجتماعية للقرآن الكريم.
[ لقد كان هناك تدرج في التحريم بخصوص المُسْكِرات من مديح إلى تحريم وأخيراً حظر على مر السنين من نزول القرآن الكريم. فالإشارة الأولى التي ذكرها القرآن هي في الفترة التي قضاها سيدنا محمد في مكّة:
"ومن ثمرات النّخيل والأعناب تتّخذون منه سكرًا ورزقًا حسنًا إنّ في ذلك لآية لقوم يعقلون". سورة 16, آية: 67
وبعد هجرة محمد إلى المدينة تحوّل الأمر بنزول الوحي إلى الآتي:
"يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما". سورة 2, آية: 219
وجاء فيما بعد تغيير آخر فنزلت الآية : "الخمر ... رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه". سورة 5, آية:90
يعلّق الباحث الباكستاني الشهير فضل الرحمن على هذا التغيير بقوله: "يبدو أن استعمال الخمر كان مسموحاً به في السنين الأولى، ولكنه كان محرّما عند أداء الصلاة ... وفي النهاية، مُنِع منعاً باتاً.] 1
وفيما يلي المصادر القرآنية:
"وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ". سورة 16, آية: 67.
" يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا..........". سورة 2, آية: 219.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ". سورة 5, آية: 90.
" وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ .....". سورة 16, آية: 101.
" مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". سورة 2, آية: 106.
لماذا يُبَدِّل الله بعض قوانينه وأحكامه؟ ولماذا ينسى البشر بعض آيات الله؟ لاحظوا كيف يرد يوسف علي الباحث في العلوم الإسلامية على هذه الأسئلة:
[ وبنظرة عامة إلى هذا الموضوع يتبين لنا بأن الرسالة الإلهية هي ذاتها في كل عصر، ولكنها تختلف في الشكل والمظهر حسب احتياجات ومتطلبات الزمن. وهذا الشكل والبناء أي تعاليم الرسالة كانت مختلفةًً حين أُعطِيَتْ لموسى ثم لعيسى وبعد ذلك لمحمد....] 2
لنفكر سوياً كيف سيكون حال العالم بعد ألف سنة من الآن، وما بالك بعد ملايين السنين؟
لنتأمل أيضاً تواصلنا الروحاني مع الله سبحانه وتعالى. إن الذين يحبّون بعضهم بعضا يستمتعون بالحديث والحوار فيما بينهم. فإذا كان الله هو جوهر ومصدر الحب، فكيف لنا أن نتصور بأنه تعالى لن يبعث برسالة لعباده المحتاجين له والمعتمدين عليه فى جميع أمورهم؟
لنتخيَّل أيضاً عدد سكّان العالم الذين سيعيشون على الكرة الأرضية في المستقبل بعد عصور عديدة لا تحصى. أليس هم بحاجةٍ لكي يسمعوا من خالقهم؟ ألن يكون لدى الله من شيء ليقوله لهم بعد مرور ملايين السنين؟ ما هي أهمية الصمت؟
كيف نتطلع باتقاد وحماس إلى تلقي رسائل من أحبائنا ؟ إن التواصل هو من أعظم نعم الله علينا، فلماذا سوف يحرمنا سبحانه وتعالى من هذه النعمة ؟
إذًا، فمن الناحية العمليّة والاجتماعية والتاريخية ومن المنظور المنطقي، نرى أن عقيدة "خاتم النبيين" تعاني من عيوب خطيرة بسبب:
• أنها تعني بأن خطة الله الأساسية لخلقه أو سنّة الله الأولى كانت ناقصة أو غير تامة، ولذلك غيّر الله سنّته من بداية القرن السابع الميلادي.
• أن تلك العقيدة تتغاضى أو تُهمِل الحقيقة البديهية: وهي أن العالم لا يزال في تطوّر وتغيُّر مستمر وكما أن العالم يتغير كذلك يجب أن تتغير القوانين والتعاليم الاجتماعية التي تحكم جمهورها وشعبها.
• أنها مخالفة لطبيعة الله وهي الحب فيصد بذلك باب التحدث مع أحبائه. (من كتاب خاتم النبيين- الدكتور محمد ابراهيم خان)
ونتابع في المقال القادم عن عن المعنى المقصود من عبارة "خاتَم النبيين". ويبين كيف اشتقّ الفقهاء بدون مبرر من هذه العبارة مفهوماً بمعنى "نهائي" أو "آخِر لكلمة "خاتم".
No comments:
Post a Comment