مناوأة المظاهر الإلهية والإعراض عنهم
أن مناوأة المظاهر الإلهية والإعراض عنهم كان في تاريخ جميع الأديان. فلم
يؤمن الجنس البشري في أي وقت من الأوقات بالمظهر الإلهي الجديد ورحّب به أو
برسالته. فجميع المظاهر الإلهية، دون استثناء، عانوا الكثير بسبب الجهل والعجرفة
وفساد معظم البشر ومعارضتهم للمظاهر الإلهية. يتفضل الانجيل المقدّس فيقول: "ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة فمنهم تقتلون وتصلبون ومنهم تجلدون
في مجامعكم وتطردون من مدينةٍ إلى مدينةٍ".
[انجيل متّى 23: 34]. ويقول القرآن الكريم: "يا
حسرةً على العباد ما يأتيهم من رسولٍ إلا كانوا به يستهزءُون". [سورة يس 36: 30].
لم يختلف الإعراض على المظاهر الإلهية في أي عصر
من العصور، وقد أعطى للبشر في كل عصر حرّيّة الاختيار إمّا في القبول أو الاعراض
عن الرسالة الجديدة المنزلة من عند الله. ويشهد التاريخ انه دون استثناء، كان رجال
الدين هم أوّل من أعرضوا ثم يحذو حذوهم الحكّام ذوو النفوذ والأغنياء وبعض رجال
الفكر. وصف السيد المسيح رجال الدين آنذاك بـ "الحيّات" "أولاد الأفاعي" و"المراؤون"! وكانت بعض الأسباب للإعتراض على السيد المسيح والإعراض عنه هي أن النبوآت
بخصوص مجيئه كانت مرموزة ولم يكن المقصود منها المفهوم الظاهري، مثلا، كان من
المنتظر أن يأتي السيد المسيح من مكان مجهول ويأتي إيليّا قبله؛ كان من المنتظر أن
يأتي السيد المسيح ويجلس على عرش داوود ويحكم العالم بعصا من حديد؛ كان من المنتظر
أن ينشر تعاليم سيدنا موسى ويقيم العدالة والانصاف إلى درجة أنها تمتد إلى عالم
الحيوان ويأكل الذئب مع الحمل، الخ. وإذا أخذنا هذه النبوءات على معناها الظاهري
فلم يتحقق أي منها ولم يتحقق أيضًا أيّ من النبوءات الخاصة بالأبراج السماوية
بخصوص الشمس والقمر والنجوم. عجز الفرّيسيون وأتباعهم عن فهم معنى هذه الرموز
وجوهرها وأخذوا مفهومها الظاهري ولذلك أعرضوا عنه.
وكذلك عانى سيدنا محمد عليه السلام الكثير على يد معارضيه حتى اضطر للهجرة
إلى المدينة حفاظًا على سلامته. كان يرى الأعداء في سيدنا محمد انه بشرٌ مثلهم
وعجزوا عن رؤية حقيقته المقدسة، فانزلت الآية الكريمة: "فقال
الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرًا مثلنا وما نراك أتّبعك إلا الذين هم
أراذلنا بادى الرّأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنُّكم كاذبين". [سورة هُود 11: 27]. وكان أعداؤه واثقين من أنفسهم حتى قالوا: "اللهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا
بعذابٍ أليم". [سورة الأنفال 8: 32].
وكما كان الإعراض عن المظاهر الإلهية في الماضي، كذلك كانت الاضطهادات
والمعارضة في تاريخنا الحديث ضد حضرة الباب وحضرة بهاءالله. فكما كان في السابق،
قاد رجال الدين الإعتراض والإعراض في عصرنا هذا وحذا حذوهم بعض الحكّام. فلقد كان
رجال الدين سببًا في اعدام حضرة الباب وسجن حضرة بهاءالله لمدة أربعين عامًا وفي
حالة يرثى لها. ويعطينا تاريخ النبيل المعروف بـ "مطالع
الأنوار" لمحة من المأساة التي وقعت علي حضرة بهاءالله عند سجنه في السياه جال: "كان سجن سياه جال اصلاً عبارة عن خزان مياه لأحد الحمّامات العمومية في
طهران وهو عبارة عن سرداب تحت الأرض يحبس فيه أسوء انواع المجرمين وكانت قذارته
وظلمته وطبيعة المسجونين فيه قد جعلت المكان أوبأ مكان يمكن أن يحكم على انسان
بالسجن فيه فكانت قدماه موضوعتين في المقطرة وعنقه في سلسلة قرا كهر وهي مشهورة في
عموم بلاد ايران بأنها اثقل انواع الاغلال وزنًا وعقرًا. ولم يقدم لحضرة بهاء الله
أي طعام او شراب لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ." [مطالع
الأنوار، ملخّص، ص 204].
يتفضل
حضرة بهاءالله مخاطبا أهل الإسلام من السنة والجماعة بقوله الأحلى: "يا ملأ
القرآن يبكي لظلمكم محمد رسول الله... قد أتبعتم أهواءكم وأعرضتم عن نور الهدى سوف
ترون أعمالكم أن ربي لبالمرصاد.... يا معشر العلماء بكم انحط شأن الملة ونكس علم
الإسلام وثل عرشه العظيم."
[شوقي أفندي، الكشف عن المدنية الإلهية، ص 30].
تنبأ كل من القرآن الكريم والحديث الشريف بإعراض العالم الاسلامي عامة
للرسالة الإلهية التي جاءت في الكور الجديد بعد "خاتم
النبوة" عليه السلام ونتيجة إعراض الامّة الاسلامية لرسالة حضرة بهاءالله. قال
القرآن الكريم: "وما كنّا معذّبين حتى نبعث رسولا". [سورة الاسراء 17: 15]. ويصف حديث شريف العالم الاسلامي اليوم بقوله: "سيأتي
علي أمتي يوم لا يبقي فيه من الإسلام إلا أسمه ولا من القرآن إلا رسمه.... علماء
ذلك الزمان شر علماء في الأرض منهم خرجت الفتنة وأليهم تعود." ثم
يقول "فى ذلك
الزمان تنزل عليكم النقمة وتحل بكم اللعنة وتصبحون وكأن الدين بينكم لفظاً. فاٍذا
رأيتم هذه الخصال توقعوا الريح الحمراء أو مسخاً أو قذفاً بالحجارة." [شوقي
أفندي، الكشف عن المدنية الإلهية، ص 14-15].
ومن
أسباب مناوأة المظاهر الإلهية والإعراض عنهم، إضافة إلى عدم فهم الجماهير للكتب
المقدّسة، هو تضليل
رجال الدين، سواء كان ذلك بسبب الغرور وحبّهم للرئاسة أو الخوف من فقدان سلطتهم أو
مراكزهم. وصف السيد المسيح رجال الدين في الإنجيل المقدّس بقوله: "ويلٌ لكم أيّها الكتبة والفرّيسيّون
المراؤون لأنّكم تغلقون ملكوت السموات قدّام النّاس فلا تدخلون أنتم ولا تدعون
الدّاخلين يدخلون." [إنجيل متّى 23: 13]. وكذلك أنزل في القرآن الكريم: "قل
يا أهل الكتاب لِمَ تصدُّون عن سبيل الله من آمَنَ..." [سورة آل عمران 3:
99]. وأيضًا: "... يا أهل الكتاب لِمَ تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون يا أهل
الكتاب لِمَ تلبسون الحقّ بالباطل وتكتمون الحقّ وأنتم تعلمون." [سورة آل
عمران 3: 69-70]. وتنبّأ القرآن الكريم أيضًا بما سوف يقولونه المعرضون أمام الله
سبحانه وتعالى بقوله: "وقالوا ربَّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبرآءَنا فأضلّونا
السّبيلا." [سورة الأحزاب 33: 67].
إن نتيجة
أحداث اليوم ما هي إلا تمهيدٌ لما انزل في القرآن الكريم: "يوم
نطوى السماء كطى السجل للكتب كما بدأنا أوّل خلقٍ نعيده، وعدا علينا إنّا كنّا
فاعلين" [سورة
الأنبياء، 21: 104]. وفي
حديث شريف عن سيرة المهدي، "سُئِل أبو عبد الله عن
سيرة المهدي كيف سيرته قال: ‘يصنع ما صنع رسول
الله، ويهدم ما كان قبله كما هدم رسول الله أمر الجاهليّة’." [كتاب
الإيقان، ص 192-193].
ورغم مناوأة المعرضين للمظاهر الإلهية، لم تستطع أي قوة
إحباط مشيئة الله وإرادته، بل كان الإعراض هو السبب الأكبر في ترويج أمر الله
وانتشاره، كما تفضّل حضرة بهاءالله بقوله: "قل إنّ الاعراض من كلّ معرض
منادٍ لهذا الأمر وبه انتشر أمرُ الله وظهوره بين العالمين". [مجموعة
الواح مباركة حضرت بهاءالله، ص 92-93].
}من كتاب "وعد الله حق" لدكتور
نبيل حنا{
No comments:
Post a Comment