الحســـد
ينتشر
مفهوم الحسد بين الناس بشكل مبالغ فيه الى درجة أثرت في سلوكيات كثير من الشعوب
والأفراد، فبمجرد ان يلمح أحدهم شخصاً ينظر إليه ويتمعن به، اعتقد على الفور انه
يحسده، فيسارع لترديد بعض الآيات أو الكلمات أو أداء بعض الأفعال البسيطة معتقداً
بفاعليتها في درء تأثير الحسد عليه أو على عائلته، أو أداء بعض الطقوس التي تعتقد
بعض مجتمعات العالم المتخلفة بمساعدتها وفاعليتها في طرد تأثير الحسد أو إبطال
مفعوله. وان سألت أحدهم عن سبب اعتقاده بالحسد، قال انه مذكور في الكتب السماوية
ويجزم بشدة على قوة تأثيره.
ان
الاعتراض ليس على وجود مفهوم الحسد بحد ذاته، فهو حالة موجودة بين الناس يتعاملون
بها باعتبارها مجموعة أحاسيس وأفعال، وردودها تتأثر سلباً وإيجاباً بدرجة التربية
والتعليم والأخلاق، فكلما تحسنت أخلاق ومفاهيم الإنسان وتوسعت مداركه، اضمحلت حالة
الحسد لديه وقل الاعتقاد بها. لكن الاعتراض ضد ما يصدر من تصرفات وردود أفعال
يسلكها الناس لدرء تأثير الحسد. والسؤال هو: لماذا تخاف الناس الحسد، بينما تمارسه
غالبيتهم بشكل أو بآخر؟
أن مبدأ
الخير وفكرته هو أساس إيجاد هذا الكون بجميع مخلوقاته، أما فكرة الشر ومبدأه، فهو
وهم صرف وخيال بحت وأمر غير موجود، وفي حقيقته هو عدم وجود الخير(1). واستنادا الى
هذا المفهوم الجديد، يمكن تسخير كل شئ في هذه الدنيا لخير ومصلحة الإنسان حتى
الحسد. أما إذا استعمل الحسد في المنافسات الإيجابية الخيّرة بين الناس لاتضحت
حسناته للجميع.
فعلى
سبيل المثال: ان التحاسد يؤدي الى التنافس الإيجابي بين الطلاب والى رفع مستواهم
الدراسي وبالتالي الى خير المجتمع ورقيه. والتحاسد الإيجابي بين المصانع والشركات
يؤدي الى وفرة المنتجات وجودة نوعيتها وراحة ورفاهية المواطن وانخفاض أسعارها.
والتحاسد الإيجابي بين الشعوب يؤدي الى مزيد من الاختراعات والاكتشافات والتقدم
لفائدة البشرية عموماً.
ان الحسد
عبارة عن مفهوم سلبي يعتقد الناس بتأثيره المادي عليهم، أي أنه في حقيقته عبارة عن
فكرة معنوية لا يمكن التعامل معها مادياً، فهو ليس حاجة ملموسة نراها أو نسمعها،
بل هو اعتقاد فكري معنوي يكمن في عقل الإنسان أو في مجموعة مشاعره، يترجم الناس
مفاهيمه المعنوية الى تأثيرات مادية ملموسة.
فمن
يعتقد بالحسد، لا يشاهد خروج جسم مادي من كيان الحاسد ليدخل في جسد المحسود. يعني
لو رمى إنسان إنساناً آخر بحجر، فالحجر ينطلق من يده ليصيب الآخر، ولو أطلقت النار
على شخص، فالرصاصة تنطلق لتصيب هدفها. فمثل هذه الأمور العينية هي عملية انتقال
مادية للأشياء تخرج من مكان وتدخل في مكان آخر.
أما
بالنسبة للأفكار والمعتقدات فلا يكون الأمر كذلك، فلا شيء يخرج من هذا ليدخل في
ذاك. لكن الحقيقة تكمن في المفهوم المعنوي للحسد، عندما يعتقد الحاسد انه يستطيع
التأثير على رزق أحدهم أو على صحته أو غير ذلك من بقية الأمور، فهو يحمل فكرة في
رأسه ورغبة في قلبه، وليس في رأس وقلب المحسود، وهذه الرغبة مثل باقي الأفكار تؤثر
في شخص وجسد حاملها الحاسد قبل التأثير في نفس المحسود. فالحاسد هو الذي يبدأ في
التفكير والتدبير والسهر والانزعاج، والإصابة بالأرق والحيرة من نجاح وتفوق صاحبه،
وهذا الانشغال الفكري يؤثر في جسده سلباً قبل غيره، فاذا كبرت وتضخمت هذه الهواجس،
أثرت على صحته وسلوكه وعمله بمقدار معين يتناسب مع درجة حسده، فيبدأ التأثير
المادي والجسدي السلبي عليه نتيجة هذه الأفكار.
فإن لم
ينتبه الشخص المحسود لكل هذه التفاعلات العاملة في شخص حاسده، لا يصيبه منها شيء
ولا يحصل له أذى، ودليل ذلك، أنه لو ظن خطئاً أن هذه النظرات إنما هي مجرد نظرات
اعجاب وتقدير، وهنا نراه يتأثر بها ايجاباً فيزداد اندفاعاً وسعياً لتحقيق أهدافه
بشكل أفضل.
أما إذا
كان المحسود يعتقد بها ويؤمن بتأثيرها، فبمجرد انتباهه الى نظرات الحاسد أو الى
إشاراته أو كلماته، عندها تبدأ تأثيراتها السلبية بالظهور عليه، فإذا كان تاجرا،
نسب ما يصيبه من خسائر الى تأثير الحسد، وإذا كان مريضاً فعل الشيء ذاته ونسب علته
الى تأثير الحسد عليه، وإذا رسب في الامتحان ردت والدته ذلك الى حسد قريناتها
وجيرانها. ونتيجة لهذا المفهوم، راح الناس يستعينون بمفهوم الحسد درءاً وإبعاداً
للعيون، فيتظاهرون بسوء الحال ويتذمرون وهم على خير ما يرام.
إن الحياة
مليئة بنتائج الربح والخسارة، ومن يعتقد بوجود الحسد وتأثيره بين الناس، ينسب كل
ما يصيبه من خسائر الى حاسده، خاصة إذا علم بوجود أحدهم فعليا. بينما ينسب نجاحه
ويقصر تفوقه الى قدراته الذاتية. وهنا نتساءل: لماذا ينسب المحسود نتائج فشله الى
الحاسد، بينما يقلل من تأثيراته عليه في حالة نجاحه؟ فإن آمن الإنسان بقدرة الله
وقوته وتقديره في توزيع الأرزاق على الناس، فكيف يرتضي الاعتقاد بتأثير الحاسد
عليه؟ أليس في ذلك نوعاً من أنواع الاعتراض على مشيئة الله سبحانه وتعالى؟ وكيف
يشرك مع قدرة الله قدرة إنسان ضعيف، ويقول: كان لهذا الحاسد تأثير فعال على نتائج
أعمالي وحياتي الفاشلة. أليس في هذا نوع من أنواع الشرك بقدرة الله عندما يخلط
قدرات مخلوق بسيط مع قدرة الخالق العظيم؟
ان كل
هذه الاعتقادات هي التي تؤثر في عقل المحسود ونفسيته بعد معرفته بوجود من يترصده
ويحسده، وما كل ذلك إلا بسبب ما ينتشر بين الناس من مفاهيم خاطئة.
لقد أثبت
الطب الحديث تأثير الغضب والحسرة والحسد وحب النفس والكراهية على أجساد الناس
وصحتهم، لأنها مفاهيم غير إنسانية لا تتناسب مع طبيعة الإنسان الخيّرة التي خلقه
الله عليها، لذلك تؤثر سلباً على صحة الحاسدين وعقولهم وتصرفاتهم.
يمكن
تعريف الحسد: أنه عبارة عن أفكار سيئة ورذائل غير إنسانية، تتولد وتتفاعل وتتضخم
داخل عقل وقلب الحاسد بمجرد ابتعاده عن الخير والعمل الصالح والقناعة والايمان
والطمأنينة. وهذه الأفكار ليس لها تأثير مادي على الآخرين، بل تؤثر بالدرجة الأولى
على الحاسد وعلى تصرفاته وأفعاله قبل غيره. ودليل صحة ذلك قلة نسبة الحاسدين بين
المؤمنين والصالحين من الناس وابتعادهم عنه لإدراكهم انه ليس من الفضائل
الإنسانية. وفي المقابل نجد زيادة نسبة الحسّاد بين الجهلة وغير المتعلمين وعدم
قدرتهم في الابتعاد عن مفهومه والاعتقاد به.
ومن
الأدلة العديدة على قوة وفاعلية تأثير المشاعر المعنوية على نتائج أعمال البشر
بشكليها السلبي والإيجابي، مشاعر الحب والمحبة بين شخصين، فشعور الإنسان بالمحبة
يدفعه للتصرف برقة ولطافة، فتترجم هذه المشاعر اللطيفة الى تصرفات لائقة وسلوكيات
جميلة تجاه المحبوب، لذا نراه دائم الابتسامة حلو المعشر متفائل يحب الخير للعموم.
وهذه المشاعر الرقيقة تؤثر إيجابا في المحبوب وتنتقل تأثيراتها إليه، فيستجيب
اليها ويبادلها صاحبه. وهنا لا نرى انتقال مادة ملموسة من الحبيب الى حبيبه، بل هي
عبارة عن مشاعر معنوية جميلة تخالف في حالتها مشاعر الكراهية والحسد.
هذا
بالاضافة الى قوة تأثير كلمات الاستحسان والتشجيع على كل إنسان، ومع أنها مجرد
كلمات معنوية فقط، لكننا نلاحظ بوضوح نتائجها الجيدة على الأبناء والطلاب
والمخترعين والعمال والمنتجين وغيرهم.
اذن،
فالايمان الحقيقي والتربية السليمة للبشر ونشر الثقافة المثمرة والاهتمام بالتعليم
وفهم أمور الدين بشكل صحيح وتحسين المستوى الاجتماعي والصحي والاقتصادي للمجتمع،
كل ذلك وغيره، له دور هام وأثر فعال في توضيح حقائق هذه المعتقدات ونقل البشرية
نقلة نوعية جيدة لخلق مجتمع أفضل. فعدم الاهتمام بنظرات الناس وما يدور في أذهانهم
من حسد او غيرة والإيقان التام ان هذه المشاعر السلبية غير مجدية ولا مؤثرة إذا
تجاهلها الناس، والسعي الحثيث للاهتمام بالعمل ورقي المجتمع والاعتماد على الله
والرضاء بقضائه، هو أنجع علاج وأفضل دواء لترك الحاسد يغلي غيظاً في مشاعره. " قبسات"
No comments:
Post a Comment