في القيامة 3-4
كذلك فأَدْرِك واعْرِف من هذه البيانات الواضحة المحكمة المتقنة غير
المتشابهة، معنى انفطار السماء، الّذي هو من علامات السّاعة والقيامة. ولهذا قال تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ﴾([1])، إذ المقصود هنا سماء الأديان، الّتي
ترتفع في كلّ ظهور، ثمَّ تنشقّ وتنفطر في الظّهور الّذي يأتي بعده، أي أنّها تصير
باطلة ومنسوخة. قسمًا بالله لو تلاحظ ملاحظةً
صحيحة لترى أنّ تفطّر هذه السّماء أعظم من تفطّر السّماء الظّاهرة. تأمّل قليلاً، كيف أنّ الدّين الّذي ارتفع
سنينًا، ونشأ ونما في ظلِّه الجميع، وتربّوا بأحكامه المشرقة في تلك الأزمنة، ولم
يسمعوا من آبائهم وأجدادهم إلاّ ذكره، بدرجة لم تدرك العيون أمرًا غير نفوذ أمره،
ولم تسمع الآذان إلا أحكامه، ثمَّ تظهر بعد ذلك نفسٌ تفرِّق وتمزِّق كلّ هذا
بقوَّة وقدرة إلهيّة، بل قد تنفيه كلّه وتنسخه.
فكِّر بربِّك أيُّهما أعظم؟ أهذا أم ذاك الّذي تصوِّره هؤلاء الهمج الرّعاع
من تفطُّر السّماء؟ وأيضًا تفكَّر في
مصاعب ومشقّات أولئك الطّلعات، الّذين أقاموا حدود الله أمام جميع أهل الأرض من
غير ناصر ولا معين في الظّاهر، ومع ما ورد على أولئك الوجودات المباركة اللّطيفة
الرّقيقة من كلّ أذى، فإنّهم صبروا بكمال القدرة، وتحمّلوا بنهاية الغلبة«
كذلك اعرَف معنى تبديل الأرض، الّذي هو عبارة عن تبديل أراضي القلوب، بما
نزل عليها من أمطار المكرمة الهاطلة من غمام الرّحمة من تلك السّماء، إذ تبدَّلت
أراضيها بأرض المعرفة والحكمة. فكم نبت في
رياض قلوبهم من رياحين التوحيد، وكم تفتَّح في صدورهم المنيرة من شقائق حقائق
العلم والحكمة. وإذا لم تكن أراضي قلوبهم
قد تبدَّلت، فكيف يقدر رجال ما تعلَّموا حرفًا، وما رأوا معلِّمًا، وما دخلوا
أيَّة مدرسةٍ، أن يتكلّموا بكلمات ومعارف لا يستطيع أحدٌ أن يدركها، بل كأنّهم قد
خلقوا من تراب العلم السّرمديّ، وعُجنوا من ماء الحكمة اللّدنّيّة. ولهذا قيل "العلم نور يقذفه الله في قلب
من يشاء". وهذا النّوع من العلم هو
الّذي كان ولا يزال ممدوحًا، لا العلوم المحدودة الحادثة من الأفكار المحجوبة
الكدرة، الّتي تارة يسرقونها من بعض، ويفتخرون بها على الغير«
فيا ليت صدور العباد تتقدَّس وتتطهَّر من نقوش هذه التّحديدات والكلمات
المظلمة، لعلَّ تفوز بتجلّي أنوار شمس العلم والمعاني، وجواهر أسرار الحكمة اللّدنّيّة. فانظر الآن، لو لم تتبدّل الأراضي الجرزة لهذه
الوجودات، كيف يمكن أن تصبح محلاًّ لظهور أسرار الأحديَّة. وبروز جواهر الهويَّة. ولهذا قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ﴾([2]).
كذلك بفضل نسمات جود سلطان الوجود، حتّى الأرض الظّاهرة قد تبدَّلت، لو
أنتم في أسرار الظّهور تتفكَّرون«
وهكذا فأدرك معنى هذه الآية الّتي تقول ﴿وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾([3]).
وهنا يجب الإنصاف قليلاً، لأنّه لو كان المقصود منها ما أدركه النّاس، فأيّ
حسن يترتّب على ذلك؟ فضلاً عن أنّه من
المسلَّم به أنّه لا ينسب إلى ذات الحقِّ المنيع يدٌ مرئيّة بالبصر الظّاهر، تعمل
هذه الأمور، لأنّ الإقرار بمثل هذا الأمر يكون كفرًا محضًا، وإفكًا صرفًا. وإذا قلنا أنّ هذا يرجع إلى مظاهر أمره الّذين
يكونون مأمورين بهذا الأمر في يوم القيامة، فإنّ هذا أيضًا يكون بعيدًا للغاية،
ولا يأتي بفائدة بل أنّ المقصود من الأرض هو أرض المعرفة والعلم، ومن السّموات هو
سموات الأديان. فانظر الآن كيف أنّ أرض
العلم والمعرفة الّتي كانت مبسوطة من قبل، قد قبضها بقبضة القدرة والاقتدار، وبسط
أرضًا منيعة جديدة في قلوب العباد، وأنبت رياحين جديدة، وورودًا بديعة، وأشجارًا منيعة
في الصّدور المنيرة«
وكذلك فانظر كيف قد طويت بيمين القدرة سماوات الأديان المرتفعة من قبل،
وارتفعت سماء البيان بأمر الله، وتزيّنت بالشّمس والقمر والنّجوم من أوامره
البديعة الجديدة. هذه أسرار الكلمات قد
أصبحت مكشوفة وظاهرة بغير حجاب، لعلَّ تدرك صبح المعاني، وتطفئ سرج الظّنون
والوهم، والشكّ والرّيب، بقوّة التّوكّل والانقطاع، وتوقد في مشكاة قلبك وفؤادك
مصباح العلم واليقين الجديد«
واعلم بأنّ المقصود من جميع هذه الكلمات المرموزة، والإشارات العويصة
الظّاهرة من المصادر الأمريّة، إنْ هو إلاّ امتحان للعباد، كما قد ذُكر، حتّى تعرف
أراضي القلوب الجيّدة المنيرة من الأراضي الجرزة الفانية، هذه سُنَّة الله بين
عباده في القرون الخالية، يشهد بذلك ما هو مسطور في الكتب«
No comments:
Post a Comment