المقال الخامس من سلسلة مقالات تبيان وبرهان
البرزخ
عمار – اذن ما هو البرزخ؟
زيد – البرزخ هو المدة التي بين رسولين ويكون في هذا
العالم وليس في عالم ما بعد الموت فالمدة التي بين لحوق الرسول صلى الله عليه وسلم
بالرفيق الاعلى وظهور حضرة الباب الكريم هي البرزخ بدليل قوله تعالى ( ومن ورائهم
برزخ الى يوم يبعثون) المؤمنون آية 100
قال العلامة البغوي في تفسيره
هذه الآية بعد ايراده مختلف الاقوال في معنى البرزخ: قال قتاده "بقية
الدنيا" أ.هـ.
وهذا القول هو الصواب بالنسبة
للزمن الذي فيه قتاده " ر ض "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
قوله وفيه فالضمير فيه يرجع
للحديث الذي اورده بشأن الشهداء . المؤلف
اذ ان الباقي من مدة البرزخ هي
المدة نفسها الباقية من مدة الدنيا لان الدنيا انما يعني بها الدورة المحمدية وما
قبلها فاذا انتهت الدورة المحمدية بمجئ رسول آخر انتهت الدنيا (1) وانتهى
زمن البرزخ.
اذن فالبرزخ هو المدة التي بين
رسولين واما ما يراه الناس من انه ما بين موت الشخص وقيام القيامة الكبرى المعروفة
عندهم فالآية تأبى ذلك لان الذين يقولون بهذه الحياة يقولون بالحيا فيها للمسلم
والكافر فهذا ينعم وذاك يعذب والآية هذه انما هي مختصة بالكفرة دون المؤمنين فقوله
تعالى (ومن ورائهم برزخ) فالضمير في ورائهم يرجع الى الذين قالوا ( أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً) التي في
الآيات السابقة لهذه الآية فانحصر البرزخ هذا لأهل الكفر خاصة ولا نصيب لأهل
الايمان فيه .
ولما كان البرزخ الزمان الحاجز
بين زماني رسولين كالليل الحاجز بين نهارين لا غرو كان زمانه مغايرا للزمن الذ فيه
رسول ودورة كل رسول تشبه دورة السنة الزمانية فزمن وجود الرسول بين ظهراني الناس
هو زمن الربيع لتلك الدورة ففيها تحيا النفوس وتبتهج الارواح وترتقي في مراتب
الكمالات وهو زمن حركة وتكون وانجذابات ثم يتلوه زمن الصيف وفيه تصل الاشياء الى
كمالاتها وتعلو كلمة الله فتنتشر التعاليم الالهية في العالم ثم يتلوه زمن الخريف
فتتبدل الاخلاق من الفضائل الى الرذائل وتتفرق الامة وتنقسم على نفسها ولا يبقى من
شريعة الله الا الاسم ومن تعاليمها الا الرسم وتنطمس القلوب وتخمد النفوس. ثم
يتلوه الشتاء فتحيط برودة الجهل والعماء وتستولي ظلمة الضلال على النفوس فيكون
جمود وخمود وهذا هو الموت المعنوي ثم يعود الربيع وهكذا فوقت الانتقالات من الموت
الى الحياة ومن الضلالات الى الهدى هو زمن الربيع وجزء من زمن الصيف اما باقي
الفصول فلا يمكن ان يحصل فيها شيئ من ذلك وهذا هو البرزخ.
فهؤلاء ليس لهم نصيب في هذه
المدة من الحياة والهدى . ثم قال جل من قائل " الى يوم يبعثون " اي الى
الوقت الذي يبعثون فيه من الضلالة الى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
لما كانت دورة كل رسالة التي تلي كل دورة رسالة حاضرة تسمى بالآخرة
كانت كل دورة رسالة حاضرة تسمى بالدنيا . المؤلف
الهداية ومعناه الايمان برسول
الوقت . كما روى البخاري في باب صب الماء في المسجد قال قام اعرابي فبال في المسجد
فتناوله الناس فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ( دعوه وهريقوا على بوله سجلا من
ماء او ذنوبا من ماء فانما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) فقوله لم تبعثوا
معسرين اي لم تهتدوا وتؤمنوا بي لتكونوا معسرين وقد مر مثل هذا في بحث الحياة
والموت من كلام الامام القرطبي في تفسير قوله تعالى ( والموتى يبعثهم الله) ومعنى الآية ان
هؤلاء امة الضلالة ليس لهم نصيب في الهداية في هذا اليوم لا في زمن وجودك بين
ظهرانيهم ولا في الزمن الباقي من مدة رسالتك التي هي البرزخ بل لا يزالون على ما
هم عليه الى ان يأتي فيه يبعثون وذلك اليوم هو يوم حضرة بهاء الله ورسالة حذرة
الباب هي جزء من رسالة حضرة بهاء الله ففي ذلك اليوم العالم كله يؤمن فلا يبقى من
هو على الضلالة والكفر لقوله تعالى .
" لم يكن الذين كفروا من
اهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله " البينة آية
1-2 اي لا يزال اهل الكتاب والمشركون في ضلالهم غير منفكين عما هم عليه من الكفر
والضلال وانكار رسالتك الى ان تأتيهم البينة اي الشاهد الذي يشهد لك على صحة دعواك
فيؤمنون به وبك وقوله حتى تأتيهم البينة يدل على ان نهاية كفر اهل الكفر والضلالة
هو الى ان تأتيهم البينة فاذا جاءت البينة آمنوا فعم العالم الايمان وهذا الشاهد
هو رسول من الله والمراد به حضرة بهاء الله(1)
الايات المعارضة للمعاد الروحاني والاجوبة
عليها
عمار – هذه الادلة واضحة
وساطعة كسطوع الشمس في رائعة النهار ولكن هناك آيات تعارض المعاد الروحاني وتدل
على المعاد الجسماني كقوله تعالى ( ايحسبن الانسان ان لن نجمع عظامه بلى قادرين
على ان نسوي بنانه) القيامة آية 3-4 وقوله تعالى ( وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا
أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً قل كونوا حجارة او كونوا جديدا او خلقاً مما يكبر في
صدوركم) اسراء آية 49-51 وقوله تعالى ( قال من يحيي العظام وهي رميم) يس آية 78
والآيات التي جاء فيها ذكر انواع النعيم والعذاب بصور المحسوسات وكيفياتها
الجسمانية كقوله عز من قائل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)وهذه الهداية العامة آتية وكل
آتٍ قريب . المؤلف .
( جنات عدن يدخلونها يحلون
فيها من اساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير) فاطر آية33 وقال جل من قائل (
وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الارائك لا يرون فيها شمسا ولا
زمهريرا) الانسان آية 12 و13 فهذه الآيات وامثالها تريك ان النعيم نعيم جسماني
وقوله جلت عظمته ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم
يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد) الحج آية 19-21 وقوله ( ثم انكم
ايها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من
الحميم فشاربون شرب الهيم هذا نزلهم يوم الدين) الواقعة آية 51-56 فهذه الايات
وامثالها كذلك تريك ان العذاب كذلك عذاب جسماني ومثل هذا ايضا القبر وفتنة منكر
ونكير والآيات الدالة على اجتماع الناس في يوم واحد كقوله تعالى ( قل ان الاولين
والاخرين لمجموعون الى ميقات يوم معلوم) الواقعة آية 49-50 وقوله ( يوم يبعثهم
الله جميعا) المجادلة آية6 وقوله ( هذا يوم الفصل جمعناكم والاولين) المرسلات
آية38 وقوله ( ربنا انك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ) آل عمران آية 9 والآيات
الدالة على خروج الناس من قبورهم كقوله تعالى ( ونفخ في الصور فاذا هم من الاجداث
الى ربهم ينسلون) يس آية51 وقوله ( يوم تشقق الارض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير
) ق آية 44 فهذه الآيات وامثالها تصرح بالمعاد الجسماني ايضاً فكيف التطبيق ؟
زيد – قد مر من كلام ابن رشد
بأن القائلين بالمعاد الروحاني فرقتان وهما طبعاً نافون للمعاد الجسماني فكيف هم
اجابوا عن اعتراضاتك هذه ولا شك ان هؤلاء قد كانوا من علية القوم وكبار المحققين.
عمار – أنرجع الى التقليد بعد
ان تخلينا عنه؟ أيجوز لنا ذلك ولم نر ادلتهم حتى نتعقبها فحصاً وتدقيقياً.
زيد – لقد جئت بالحق وان علينا
سوق الادلة دون تقليد لهذا او ذاك والآيات هذه ليس فيها مايدل على المعاد الجسماني
لاسيما قوله تعالى ( ايحسب الانسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على ان نسوي
بنانه) القيامة آية 3و4 فاي استدلال رأيت بها على عود الاجسام ياعمار
عمار – أليس ان العظام يجمخ
بعضها الى بعض لاجل الاحياء مرة ثانية.
زيد – ان جمع العظام بعضها الى
بعض هو من لوازم الموت ذلك ان الانسان بعد موته يأكل لحمه الدود فتتساقط العظام
بعضها على بعض فتجتمع .
اما في حالة الحياة فالعظام في
بدن الانسان متفرقة يحول بينها الغضاريف واللحمان ولا تجتمع الا في حالة الموت
فجمعها من لوازم الموت(1) فذكر تعالى لوازم الموت واراد الموت . ولازمة
الآخر وهو العقاب الاحروي ثم قال جل من قائل ( بلى قادرين) أي حال كوننا قادرين
اآن (على) عقابه في هذا العالم ب( ان نسوي بنانه) قال العلامة البغوي في تفسير هذه
الآية " بان نسوي بنانه أي انامله فنجعل له اصابع يديه ورجليه شيئا واحداً
كخف البعير وحافر الحمار فلا يرتفق بها بالقبض والبسط والاعمال اللطيفة كالكتابة
والخياطة وغيرها وهذا عليه اكثر المفسرين أ.هـ."
ومعنى الآية أيحسب الانسان ان
لا نعاقبه بعد موته بلى نستطيع كذلك ان نعاقبه الآن بابسط شيئ اشد العقاب وليس في
الآية ما يدل على عود الاجسام ياعمار.
اما قوله تعالى ( وقالوا أإذا
كنا عظاماً ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً . قل كونوا حجارة او حديداً او خلقا
مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا . قل الذي فطركم اول مرة فسينغضون اليك
رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى ان يكون قريباً . يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده)
الاسراء آية49-52
ولاجل الايضاح نورد الآيات
المتقدمة على هذه الآية وهي: ( واذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون
بالآخرة حجاباً مستوراً. وجعلنا على قلوبهم اكنة ان يفقهوه وفي آذانهم وقراً واذا
ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على ادبارهم نفوراً نحن اعلم بما يستمعون به .
اذ يستمعون اليك واذ هم نجوى
اذ يقول الظالمون ان تتبعون الا رجلاً مسحوراً . انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا
فلا يستطيعون سبيلا) اسراء آية 45-48
وقالوا إذا كنا عظاما ورفاتا
الآية فبهذه الآية مثل سبحانه وتعالى فهم المشركين المغلوط لمعاني القرآن ذلك ان
قريشاً كانت تسمع الى بعض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)قد تمر السنون والدهور وعظام
هذه الاموات بعد ان تنخر وترم وتبلى تعود تراباً فتمتصها الاشجار والنباتات وتختلط
بما جاورها من الاتربة وتنعدم ولا يبقى لها من وجود ولا اثر وما لا وجود له ولا
اثر كيف يجمع وانما يجمع للحياة الموجود لا المعدوم ولكن اذا مات الميت بعد مدة من
الزمن تطول ام تقصر يتساقط عظام قفص صدره اعلاه
على اسفله وهو اهم جزء في الانسان فتجتمع تلك العظام وهذا من لوازم الموت . المؤلف
آيات القرآن الدالة على بعث
الاموات كقوله تعالى (إنكم مبعوثون من بعد الموت) هود آية7 (ثم انكم يوم القيامة
تبعثون) سورة المؤمنون آية16 (والموتى يبعثهم الله) الانعام ىية36 وامثال هذه
الآيات التي تدل على عود الحياة للموتى فكانوا لا يفهمون من هذا الموت الا الموت
الطبيبعي ولا من الحياة الا عود هذه الاجساد بذاتها لحالتها الاولى وقد كانوا لا
يعرفون كذلك ان هناك روحاً قائمة بذاتها مستقلة ولم يفهموا ان المراد بالموت هو
الكفر والضلالة ولا بالحياة هو الايمان والهداية فلذلك استبعدوا عود هذه الايدان
وجعلوا يكررون قولهم هذا وامثاله فكان الفهم منهم هذا فهماً خاطئاً على غير مراد
القرآن فلهذا يقول سبحانه وتعالى ( فاذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا
يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً) فالحجاب هو جهلهم بمعاني القرآن وجهلهم لكمالات
الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا الحجاب هو مستور بحجاب آخر وهو جهلهم بانهم يجهلون
فلذلك لم يعرفوا ان محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله وانه في منتهى الكمال بل
كانوا يعتقدون انه مسحور وهذا غاية النقص فكما انهم محجوبون عن معرفة كمالات وعلو
شأن هذا الرسوم العظيم محمد صلى الله عليه وسلم كان كذلك على قلوبهم اكنة فلا
يفقهون معاني القرآن ولا مدلولات كلماته وفي آذانهم وقر فلا يسمعونه سماع تدبر بل
كانوا يتلهون عنه عند سماعهم تلاوته بمناجات بعضهم بعضاً. فنجد ههنا مثالين يمثلان
فهمهم الخاطئ احدهما كيفية معرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم اذ كانوا يعدونه
مسحوراً على الرغم من تلك الكمالات البارزة فيه وثانيهما كيفية فهمهم للقرآن اذ
فهموا منه ان المراد بالموت هو موت هذه الاجسام زفناؤها وان المراد بالحياة هو عود
تلك الاجسام بعينها الى حالتها الاولى لا ما هو مراد القرآن من هذا الموت وهو
بقاؤهم على حالتهم الاولى في الضلالات والجهالات والكفر ومن الحياة الهداية
والايمان فلذلك قالوا ( أإذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً)
فأجابهم سبحانه مؤيداً البعث على المعنى الذي اراده وهو هداية تلك النفوس وايمانها
برسول الوقت لا على ما فهموه فقال جل من قائل ( كونوا حجارة او حديداً او خلقاً
مما يكبر في صدوركم) اي كونوا بالصلاثة في ثبوتكم على ضلالتكم وكفركم كالحجارة
والحديد بالصلابة او مما يكبر في صدوركم مما هو اكبر صلابة وثبوتاً على صفاته من
الحجارة او الحديد فمثل المشركين ومثل الجواب هذا كرجل متمسك في ضلاله وفهمه
الخاطئ فتقول له تمسك برأيك وتصلب فيه فلابد انك عائد الى ما اقوله لك رضيت او
ابيت وهذا تأييد للبعث على حقيقته لا تأييد لفهمهم الخاطئ فالحجارة والحديد لا
تتناسب مع ما ارادوه اذ ان هذه الاشياء ثابتة على حالها غير متغيرة اما هم
فيستبعدون ما تغير تغيراً دقيقاً لعود العظام او الرفاة الى حالتها الاولى جسماً سوياً
لقال كونوا غباراً او هباء مما هو اكثر استبعاداً مما هم مستبعدونه لا ما هو اكثر
ثبوتا او صلابة على ما هو عليه ( فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم اول مرة)
والفطرة هذه هي التي اشار اليها سبحانه وتعالى بقوله (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة
الله التي فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) روم آية30 قال
السيد الشريف الجرجاني في تعريفاته الطرة: الجبلة المتهيئة لقبول الدين أ.هـ. ورى
مسلم في صحيحه عن ابي هريرة " ر ض " قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم ( ما من مولود الا ويولد على الفطرة) ثو يقول اقرأوا ( فطرة الله التي فطر
الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) أي فستعودون لفطرتكم الى اتباع
الدين الحق باتباعكم حضرة بهاء الله كما كانت كل فرقة من فرقكم متبعة الحق ايام
رسولها وزمانه فالعود الذي اراده المشركون في قولهم من يعيدنا ارادوا عود الاجساد
مستمرين على فهمهم الخاطئ وما تضمنته الآية في قوله تعالى ( قل الذي فطركم اول
مرة) العود الى الحياة الايمانية والهداية باتباع رسول الوقت مستمراً على تقريره
وهذا ما يسمى بالاسلوب الحكيم كما جاء في قوله تعالى ( يسألونك عن الأهلة قل هي
مواقيت للناس) البقرة آية189 فالسائلون سألوا عن الأهلة ما هي والجواب كان عن
افادتها لا عن ماهيتها فالمشركون مع خطئهم في فهم آيات القرآن كانوا يريدون
المكابرة والمجادلة ومثل هؤلاء لا يفيد معهم التفهيم والتبيين وانما يفيد التفهيم
طالبي الحقيقة ثم قال تعالى ( فسينغضون اليك رؤوسهم) اي يحركون اليك رؤوسهم مستهزئين
يقولون متى هو كائن ذلك ( قل عسى ان يكون قريباً يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) اي
يوم يدعوكم الله تعالى على لسان رسوله ومصر وحيه حضرة بهاء الله فتستجيبون له مع
الحمد على تلك النعمة العظمى والمنة الكبرى ويستنتج مما تقدم اربعة ادلة تؤيد ما
نقول :
الدليل الاول – قوله تعالى (
كونوا حجارة او حديداً او خلقاً مما يكبر في صدوركم) فهذا لا يكون جوابا مؤيدا
لقولهم ( أإذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً) لانهم مستبعدون
عودة الرفاة والعظام اجساداً سوية كما كانت فعليه انما يكون الجواب المناسب ان
يؤتى بما هو اكثر استبعاداً لعوده كما كان فيقال كونوا عباراً او هباء فستعودون
كما كنتم فان عود الاجسام الى حالتها الاولى بعد صيرورتها هباء او غباراً اكثر
استبعاداً من عودها الى حالتها الاولى بعد صيرورتها عظاماً ورفاة ولما كان الجواب
ليس كذلك بل كان بما هو اكثر تصلباً وثبوتاً على حاله وصفاته كالحجارة والحديد او
ما هو اكثر ثبوتا على ذلك من الحديد والحجارة علمنا ان المراد من العود هذا عود
الصفات وهي عود الهداية والايمان لا عود الاجسد فالمعنى مهما تكونوا متصلبين
وصابتين على ضلالتكم هذه فلابد وان تعود فرقتكم هذه الى الهداية والايمان وتتبعوا
الحق وتؤمنوا بحضرة بهاء الله .
الدليل الثاني – قوله تعالى (
هو الذي فطركم اول مرة) عندما قال المشركون من يعيدنا اشارة الى الفطرة التي فطر
الله الناس عليها وهي التهيؤ لقبول دين الحق والتمكن من ادراكه يعني الذي فكركم
على قبولكم الحق وتمكنكم من ادراكه سيعيكم اليه فتقبلونه مع الحمد كما مر فاتضح ان
العود هذا ليس هو عودة الاجسام بل عودة الحياة الايمانية .
الدليل الثالث – قوله تعالى (
يدعوكم فتستجيبون بحمده ) والدعوة ههنا الدعوة للايمان كما قال تعالى ( يا قومنا
اجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم) الاحقاف
آية31 فالاستجابة تكون لهذه الدعوة وهي دعوة حضرة بهاء الله التي سيعم استجابتها
العالم.
الدليل الرابع – انه لو كانت
هذه الاعادة بعد الموت الطبيعي لما كان حمد بالاستجابة للداعي لان الكفار واهل
الضلالة انما يعاقبون ويجازون بعد موتهم الطبيعي على كفرهم فانى يكون عندهم حمد
وانما يكون الحمد مع الفرح والسرور ولا فرح ولا سرور لهؤلاء فثبت ان هذه الآية لم
تدل على عودة الاجسام بعد موتها الى حالتها الاولى بل عود فرق الضلال و الكفر الى
الهداية والايمان في دورة حضرة بهاء الله كما تقدم .
اما قوله تعالى ( وضرب لنا
مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي انشأها اول مرة وهو
بكل خلق عليم) يس آية 78و79.
لا يزال المشركون كلما سمعوا
مثل قوله تعالى ( ثم أماته فاقبره ثم اذا شاء انشره) ظنوا ان الحياة هذه هي عود
اجسام الناس الى حالها الاولى فكانوا يستبعدون وقوم ذلك فقالوا ( من يحيي العظام
وهي رميم) فاجابهم سبحانه وتعالى بقوله (قل الذي انشأها اول مرة) ذلك ان الحياة
الاخلاقية كالحياة البدنية فاكفر هو موت والمتوغل في موته الطبيعي يصير عظاماً
ورفاةً ثم يرم العظام حتى يصير تراباً فكذلك المتوغل في كفره يكون كالرمة في دخوله
في ضلال بعد ضلال وكفر بعد كفر فالذي يعيد له الايمان والاخلاق العالية هو الذي
أنشأه اول مرة.
لماذا ذكر القرآن الكريم النعيم
والعذاب بصور المحسوسات
اما الآيات التي اوردتها بشأن
النعيم والعذاب الجسماني لاشك ان القرآن ذكر كثيراً من انواع النعيم والعذاب بصور
المحسوسات وهذا انما هو تمثيل وارادة للبيان والايضاح ألم يمر عليك قول ابن رشد:
نجد اهل الاسلام في فهم
التمثيل الذي جاء في احوال المعاد فسماه تمثيلاً اذ ليس هذه الاشياء بنفسها واقعة
هناك بل انما هي تمثيل لما هناك .
وقال عن الطائفة التي تقول ان
المعاد روحاني ترى ان الوجود الممثل بهذه المحسوسات انما مثل به ارادة للبيان.
ذلك ان الحقائق المعقولة لا يمكن
ايضاحها الا بتكييفها بالحقائق المحسوسة وتفريغها في قوالبها فلو اراد شخص مثلا
التعبير عن حزنه يقول ضاق صدري او فرحه يقول انشرح صدري وفي كلتا الحالتين لم يحصل
لضدره ضيق ولا اتساع وان النبي صلى الله عليه وسلم ارسل في قوم اميين من اهل
البوادي او قرى شبيهة بالبوادي لم تكن نفوسهم مستعدة لادراك المعاني الروحانية ولا
الحقائق المعقولة اذ كانوا غير مرتاضين بشئ من العلوم ولا مقرين بحياة بعد الموت
ولا عارفين بنعيم الدنيا فضلاً عن معرفة نعيم ما بعد الموت وان الشئ الخفي الغائب
لا يتصوره الانسان الا بالوصف الموضح لمحاسنه ومساوئه فالانسان لا يرغب فيما لا
يتصوره ولا يرهب منه فلهذا جاء في القرآن الكريم وصف الجنان والنيرات بالاشياء
الجسمانية ليقرب فهمها من عقولهم ويسهل تصورها عليهم وترغب فيها نفوسهم وترهب منها
وتقرب من اذهانهم وليس معناها ان هذه الاشياء نفسها موجودة بل العذاب والنعيم انما
هي كيفيات روحانية يمثل فيها الشقاء والسعادة وقد اتفقت الاديان كلها على ان ما
بعد الموت اما شقاء واما سعادة ولكن تلك الكيفيات لا يمكننا ان نعرفها كما ان
الجنين في بطن امه لا يمكنه ان يعرف شيئا من حالة الدنيا ومهما تصور له شيئاً منها
لا يمكنه ان يتصوره بل لو رأيت احداً من سكان البوادي ممن لم ير شيئا من المخترعات
الحديثة ولم يحضر شيئ من المدن واردت تفهيمه عن المذياع "الراديو"
والمصابيح الكهربائية او اشياء من هذه المخترعات الحديثة فلا يمكنك تفهيمه وايضاح
ذلك له البتة.
فكيف يتصور رجل يجلس الى آلة
صغيرة في وسط غرفة مقفلة ويتكلم في تلك الآلة فيسمع صوته في ملايين من الغرف في
مختف البلاد القريبة والبعيدة في حين ان من كان في خارج غرفة البث لا يسمع ذلك
الصوت ان لم يكن هناك مذياع يسمع منه .
أم كيف يتصور انك لو حركت زراً
لاضاء آلاف المصابيح في مئات من البيوت أليس يعد ذلك من المستحيلات مع ان هذه
الاشياء قد انشئت مما قد انشئ الانسان منه فكيف يمكن ان نتصور شيئا في النشأة
الاخرى التي لم ندر ما هي وقد قال تعالى عنها ( نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن
بمسبوقين على ان نبدل امثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون) الواقعة آية 60- 61
واذا كان الشئ الذب ننشأ فيه
لا نعلمه فكيف نعلم ما به سعادة تلك النشأة وشقاوتها. قال الامام الغزالي كما نقله
عنه العلامة الزبيدي في شرح الاحياء الجزء الثاني ص71 " واقول لا يعرف احد
حقيقة الموت وحقيقة الجنة والنار الا بعد الموت ودخول الجنة والنار" أ.هـ.
وفي قوله ( مثل الجنة التي وعد
المتقون فيها انهار من ماء غير آسن وانهار من لبن لم يتغير طعمه وانهار من خمر لذة
للشاربين وانهار من عسل مصفى ولم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كم هو خالد في
النار وسقوا ماء حميما فقطع امعاءهم) محمد آية 15
وقوله ( مثل الجنة التي وعد
المتقون تجري من تحتها الانهار اكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى
الكافرين النار) الرعد آية35 تصريح بان هذه الاشياء التي في هذا العالم مضروبة
مثلا لما في عالم ما بعد الموت مما يتنعم فيه او يعذب به .
وقال ابن عباس رضي الله عنه
ليس في الدنيا مما في الجنة الا الاسماء وقد جاء ايضا وصف الجنان وعذاب النيران في
القرآن باوصاف روحانية محضة قال تعالى ( ان المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند
مليك مقتدر) القمر آية 54-55 . وهذه العندية عندية القرب والزلفى والمكانة والرتبة
والكرامة وقد بلغت الغية في الرضا والغبطة وقال تعالى ( ورضوان من الله اكبر)
التوبة آية17 وقال ابن القيم الجوزية في كتابه " حادي الارواح " ص197
وفي الصحيحين عن ابي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اعددت لعبادي
الصالحين مل لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) مصداق ذلك في كتاب الله
( فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة اعين جزاء بما كانوا يعملون) وما شاكل هذه
الآيات والاحاديث مما جاء قي اوصاف النعيم الروحاني وقد جاءت كذلك آيات باوصاف
العذاب الروحاني قال تعالى ( الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم
ويتفكرون في خلق السموات والارض ربنل ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار
ربنا انك من تدخل النار فقد اخذيته) آل عمران آية 191و192 اي نفس خزيك اياه هو
ادخالك اياه النار يعني الخزي هو النار والحرمان من رضوان الله تعالى وقال تعالى (
نار الله الموقدة التي تطلع على الافئدة) الهمزة آية 7و8 فالنار التي تطلع على
الاجسام دون النار التي تطلع على الافئدة ايلاماً ووحزاً بمراحل . هذا والله عز
وجل خاطب كل طائفة من الناس على حسب مداركهم وعقولهم ومراتبهم في المعارف: فترى ان
المسيح عليه السلام صرح لقومه باوصاف الجنان ونعيم اهلها باوصاف غير جسمانية وما
ذاك الا ان خطابه كان مع قوم قد هذبتهم التورات ةكتب الانبياء عليهم السلام وكانوا
متهيئين لتصورها ومستعدين لقبولها فكذلك حضرة بهاء الله جاء والعالم قد بلغ شأواً
من الرقي العقلي والتهيئ الى فهم الحقائق فازاح الستار ورفع النقاب عما كان مستورا
كالقيامة والمعاد ونعيم الجنان وعذاب النيران وامثالها واظهر الحقائق على ما هي
عليه .
معنى الايات الدالة على جمع الناس
في يوم واحد
اما الايات الدالة على جمع
الناس في يوم واحد فقوله تعالى ( هذا يوم الفصل جمعناكم والاولين) المرسلات آية38
فمعنى هذا الجمع هو ان كل فرقة من الفرق المؤمنة برسولها ذات حياة وكيان فاذا جاء
الرسول التالي لرسولها وكذبته جُمعت مع الفرق المكذبة لرسلها السابقة واندمجت فيهم
فصاروا فرقة واحدة .
اما قوله تعالى ( قل ان
الاولين والآخرين لمجموعون الى ميقات يوم معلوم ثم انكم ايها الضالون المكذبون
لاكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب
الهيم هذا نزلهم يوم الدين) الواقعة آية 49و56.
فقوله تعالى ( ان الاولين
والآخرين) ليس المراد منها الافراد بل الفرق والمراد من الفرق هذه الفرق المؤمنة
وغير المؤمنة برسول الوقت فالاولون هم غير المؤمنين برسول الوقت والآخرون هم
المؤمنون به ( لمجموعون الى ميقات يوم معلوم) وهذا الميقات هو دورة حضرة بهاء الله
فيجتمع غير المؤمنين بالمؤمنين على الايمان بحضرة بهاء الله فيبعثون من ظلمات
الضلالات الى نور الهداية وهذا الجواب هو الذي امر الله سبحانه وتعالى محمد صلى
الله عليه وسلم ان يجيب به قريشاً كما حكى تعالى عنهم في الآيتين المتقدمتين بقوله
( وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون او آبائنا الاولون)
الواقعة آية 47-48 فقال سبحانه وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم ( قل ان الاولين
والآخرين) الآية.
اما قوله تعالى ( ثم انكم ايها
الضالون المكذبون) بعد ان ذكر حال المكذبين عامة ذكر المكذبين بمحمد صلى الله عليه
وسلم فقال ( ثم انكم ايها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم) تمثيل لما
يصيبهم من العذاب كمن يأكل الزقوم وهذا التمثيل لما يصيب المكذبين بمحمد صلى الله
عليه وسلم من الرزايا والبلايا والعذاب الاليم. وقد وقع كل ذلك زمن الفتح على يد
الامة نفسها كما قال تعالى ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزيهم وينصركم عليهم
ويشف صدور قوم مؤمنين) التوبة آية14.
ثم قال تعالى ( هذا نزلهم يوم
الدين) أي هذه الحالة هي ايضاً حالة المكذبين لحضرة بهاء الله فينالهم من العذاب
كمن يأكل الزقوم حتى ملأ بطنه وشرب عليه من الحميم كما تشرب الهيم وما ذاك العذاب
الا هذه البلايا والرزايا من الحروب الهائلة ولوازمها ونتائجها حتى لم تبق امة الا
وقد اصابها من ذلك العذاب ألوان ولو انهم آمنوا بحضرة بهاء الله لما اصابهم من هذا
شيئ بدليل ان حضرته جاءهم بأمر السلام العام فلو انهم آمنوا به لما وقعت هذه
الحروب ضرورة ان الايمان يوجب الطاعة والسلم وترك الحروب من الامور المفروضة
الواجبة الطاعة اما قوله تعالى ( يوم يبعثهم الله جميعا) المجادلة آية6 . وقوله (
ربنا انك جامع الناس ليوم لا ريب فيه) آل عمران آية9 . فكلها تدل على الاجتماع في
دورة حضرة بهاء الله على دينه المتين وقوله (لا ريب فيه) اي لا شك واللام في يوم
بمعنى في. كما في قوله تعالى ( والشمس تجري لمستقر لها ) يس آية38. أي في مستقر
لها.
No comments:
Post a Comment