س السائل- عن اعتقادنا في عمر نوح عليه السلام، هل هو كما نزل في القرآن الشريف عاش تسعمائة وخمسين عاما أو له معنى آخر.
(الجواب)
اعلم أيها السائل الفاضل يسّر الله لنا ولكم الوصول الى أقرب الوسائل وأتقن الدلائل، أن لأهل العلم في أمثال هذه المسائل نظرين، ديني وعلمي.
(أما النظر الديني) فمعلوم أن كل من اعتقد بحقية رسالة سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وأن القرآن الشريف كتاب الله الذي نزل من السماء اعتقد بالضرورة بصحة جميع ما ورد في هذا الكتاب الكريم وصدق ما نزل في هذا السِفر العظيم سواء كان قريباً من أفهام الناس أو بعيداً عنها ما لم يحكم العقل الصريح باستحالته ولم يقم قاطع البرهان على امتناعه. ومن له أدنى إلمام بالأدلة العقلية والقياسات المنطقية يعرف بالبداهة أن غاية ما ينكرونه في مسألة طول أعمار الأقدمين إنما هو من قبيل الاستبعاد العادي لا الاستحالة الحقيقية والامتناع العقلي، إذ لم يقم أدنى دليل قطعي على استحالة طول الأعمار أكثر مما هو مألوف في هذه الأعصار. خصوصاً في أهل الأزمان القديمة والأعصار الغابرة التي انقطعت يد الكشف والاستقصاء عن تحقيق أحوالهم ومدد أعمارهم بسبب انقطاع تاريخهم ومحو آثارهم. والعاقل اللبيب بمجرد الاستبعاد لا يحكم بخلاف ما نزل به القرآن الشريف وصرح به الكتاب المجيد، إنه لقول فصل وما هو بالهزل.
(وأما النظر العلمي) فمعلوم أن العالم المحقق لا يذعن لأمثال هذه المسائل إلا بعد معرفة مصادرها ومقدار إمكان الوثوق والاعتماد عليها. ومن المعلوم أن التواريخ القديمة المنبئة عن كيفية ابتداء الخلقة ليست إلا أربعة تواريخ مما تعتبره الأمم الكبيرة وتستمد من مصادرها الملل العظيمة. وهي تاريخ البوذية (أهالي الصين) وتاريخ البرهمية (سكان الهند) الأصليين، وتاريخ الزردتشتية (أمم الفرس الأولى والأكاسرة العظمى) وتاريخ العبرية، أي اليهود ومن اعتبر صحة رسالة موسى. ومن عجيب ما ينتبه اليه المتبصر أن هذه التواريخ المذكورة مع اختلاف مفاهيمها اختلافاً لا يرجى جمعها وتطبيق بعضها على بعض وبعد مشارب أهلها والتفاوت الفاحش في أزمانها والاختلاف الواضح بين الأسماء والحوادث المذكورة فيها، اتفقت في مسألتين وهما طول أعمار الأولين طولاً مفرطاً عما هو معهود في أعمار الآخرين ومزجها بحكايات أشبه بالأقاصيص الخرافية عند المحققين وبمعميات وأحاجي ورموز عند المعتدلين.
أما تواريخ البوذية والبرهمية والزردشتية فلا يوجد فيها ذكر من آدم وحواء ولا شيت ونوح وأمثالهم ولا قصصهم ووقائعهم ولا ما يقارب هذه الاسماء، بل وردت كل هذه الأسماء في تاريخ العبريين فقط ومنهم انتقلت الى الأمة النصرانية والملة الاسلامية. ولما صح عن النبي عليه السلام أنه قال (بعثنا معاشر الأنبياء نخاطب الناس على قدر عقولهم) وكذلك (حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله) كما نقله القاضي العلامة محمد ابن أحمد بن رشد الأندلسي في كتاب الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملّة عن البخاري، فلا يمكن للعالم المحقق والحالة هذه أن يستمد في المسائل التاريخية عن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ومن المعلوم أن الأنبياء ومظاهر أمر الله عليهم السلام بعثوا لهداية الأمم وتهذيب أخلاقهم وتقريب الناس الى مرجعهم ومآبهم وما بعثوا مؤرخين أو فلكيين وفلاسفة وطبيعيين فان شؤونهم في عالم الخلق كشأن القلب في عالم البدن شأن كلي وأثر عام. وشؤون العلماء في عالم الملك كشأن العضو المعين بين الأعضاء شأن خاص وأثر مخصوص. ولذلك تساهل الأنبياء عليهم السلام مع الأمم في معارفهم التاريخية وأقاصيصهم القومية ومباديهم العلمية، فتكلموا بما عندهم وتفاوضوا بما يلائمهم وستروا الحقائق تحت أستار الإشارات وخدّروا حوريات المعاني في قصور الآيات وأسدلوا عليها ستائر بليغ الاستعارات، فلا يشك عاقل إذاً أن ما ورد في القرآن المجيد والفرقان الحميد من كيفية بدء الخلقة ومناظرة الملائكة وقصص آدم وشيطانه ونوح وطوفانه كلها حقائق تخبر عما يتجدد في مواعيد تجدد العالم ويتحقق في مواقيت انقضاء آجال الأمم بظهور الحقيقة المقدسة الأولية وتجدد الشرائع الإلهية. فلا يجوز للمؤرخ من حيث العلم أن يعتمد على ظواهر هذه الآيات إذ لا يمكنه سد باب الاحتمال الراجح أن تكون لها معان عالية وتأويلات سامية غير ما هو مفهوم من ظواهرها ومسموع من مصادرها. وليس احتمال تأويل الآيات من شذوذ التصورات أو نوادر الاحتمالات حتى لا يعبأ به أرباب الفضل ولا يعتني به أهل العلم بعدما نزل في الكتاب المجيد (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) وجاء في القرآن الحميد (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)، وبعد ما صحّ من الأثر الشريف واستفاض من السنّة المأثورة أن لآيات القرآن بطونا غامضة عميقة وتأويلات عالية دقيقة عرفها أهله وأدركها حملته منَّ الله بكشفها على عباده الثابتين وأرقائه المخلصين. وليس المراد من التأويل إلا المعاني الأصلية المقصودة مما ستره الله تعالى في بطون الآيات وأخفاه تحت ستائر الاستعارات. وليس هذا من شأن البشر حتى يخوض في غماره كل جاهل ويفسر الآيات برأيه كل خامل كما فعله بعض الجهلة بغرورهم وضلوا وأضلوا كثيراً بتفاسيرهم وأبعدوا الناس عن معين الحياة وأخفوا عنهم سبيل النجاة. بل هو من شؤون مظهر أمر الله ومنجز وعده كما صرح به في الكتاب حيث قال (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)(1).
فاذا ثبت أنه لا يمكن للمؤرخ أن يستمد في معارفه التاريخية من ظواهر آيات القرآن ولا ذكر لنوح وأمثاله في سائر التواريخ القديمة، فلا يبقى إذاً بين يدي المؤرخ إلا التوراة وسائر الكتب من العهد العتيق. والناقد البصير إذا أمعن النظر في هذه الكتب المقدسة مجانباً أمياله المذهبية والتقاليد والآراء الملفقة القومية يرى فيها قسمين مفروزين من التعليمات جديرين بمزيد التوجه والالتفات.
(القسم الأول) ما نسب في الكتاب بأنه من الله وتكلم به الله أو أنزل من لدى الله. وفيه الأحكام والحدود والشرائع والسياسات والأخبار عن الأمور الآتية من قبيل الانذارات والبشارات، وأعظم هذه بشائر ورود (يوم الله) وآثاره وآياته وعلائمه واشراطه مثل الكلمات العشر في أصل التوراة والنشيد والبركة الواردة في أواخر سفر التثنية وزبور داود وكتاب أشعياء النبي وكتب يرميا ودانيال وحزقيل وزكريا وغيرهم من أنبياء بني اسرائيل. ومن أوتي بصيرة من الله وموهبة المعرفة والتمييز بين تصانيف البشر وآيات الله يعترف بأن هذه الكتب كلها آيات إلهية وكلمات سماوية وبشائر ونذر ربانية توقد وتضيء وتتألق من الشجرة المباركة الموسوية كسراج منير في الليلة الليلى أو كنجم بازغ من السماء القصوى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وسيلحق تفسير هذه الآية الكريمة في آخر الكتاب ويجب أن ينتبه اليه فانه في غاية من النفاسة.
(والقسم الثاني) ما يخبر عن الأمور التاريخية من كيفية ابتداء الخلقة وانشعاب القبائل وانبثاث الخلق على وجه الأرض وتاريخ حياة الأنبياء وحوادث أيامهم وتعداد الملوك ووقائع دولهم، كالتورايخ الواردة في الأسفار الخمس من ابتداء خلقة آدم الى وفاة موسى عليه السلام وكتاب يوشع وكتاب القضاة وكتابي الصموئيل وكتابي الملوك وكتابي أخبار الأيام وكتاب عزرا وكتاب نحميا وأمثالها من كتب المؤرخين. وهذه الكتب ليس فيها تصريح أو تلويح أو أدنى إشارة بأنها وحي سماوي أو كلام أو إلهام إلهي، فلا يجوز على المؤرخ أن يعتمد عليها ويجزم بصحة ما ورد فيها، ويحلها محل الوحي السماوي إلا إذا عرف مصنفي هذه الكتب، ومن يعرف مقدار اختلاف العلماء في تعيين مصنفي هذه الأسفار والأدلة التي اعتمد كل فرقة منهم عليها في رأيه واعتقاده، يعرف عدم جواز الركون والاعتماد على صحة ما ورد فيها. ومن الحماقة أن يعتمد العاقل الناقد على كتاب لا يعرف بالتحقيق مصنفه ويحسب وحياً إلهياً وكلاماً سماوياً ما لم يتعين بعد الفحص والتدقيق مصدره ومؤلفه. مثلا إذا تصفحنا أقوال كبار العلماء في تعيين مصنف الأسفار الخمس أصل التوراة وأساس التواريخ العبرية، نرى ثمة إختلافاً كبيراً لا يرجى بالكشف والاستقصاء زواله ولا ينتهي الى ركن وثيق غايته ومآله، فان كثيراً من العلماء اعتقدوا بأن مصنف هذه الأسفار هو موسى عليه السلام، ولكن يكذبهم ويذهب بقيمة رأيهم ما ورد في آخر هذا الكتاب من ذكر وفاة موسى وكيفية إقامة بني اسرائيل مناحة له بعد وفاته. وثمَّ شواهد أخرى تدل دلالة واضحة على أنها صنفت بعد وفاة موسى بمدة غير وجيزة وبعضهم ذهب بلا دليل يركن اليه الى أن الفصلين الأخيرين من سفر التثنية من تصانيف يوشع بن نون فإنه صنفهما وأضافهما على الأسفار الخمس التي صنفها موسى تتميماً لمصنفاته وتكميلاً لتاريخ حياته وتوضيحاً لحال الشعب بعد وفاته. وبعضهم قال أن هذه الأسفار من مصنفات يرميا أو أحد غيره من أنبياء بني اسرائيل. وهذا القول أيضاً كأقوالهم السابقة لا يخلو من ضعف التعليل أو فقدان الدليل. وجماعة من المحققين ذهبوا ولعلهم أصابوا (إذ لا يخلو هذا القول من قوة نوعاً) الى أنها من تصانيف عزرا الكاهن الذي عبر عنه في القرآن الشريف بعزير. فإنه بعدما رجع القوم من جلاء بابل بأمر الملك الكبير أردشير وبنى القدس الشريف وجمع شمل اليهود وأحيى بيت داود، طلب الشعب منه نسخة التوراة وكان عزرا رجلاً فاضلاً، وكاتباً ماهراً، وكاهناً ديناً، تعلم في مدينة بابل في مدارسها الكبيرة، وحاز معارفاً واسعة وفنوناً نافعة على مقدار ما بلغت سعة المعارف في تلك الأوقات فإن مدينة بابل إذ ذاك كانت موئل المدنية ومشرق أنوار العلم والحكمة، فكتب عزرا إجابة لطلب الشعب كيفية إبتداء الخلقة وتفرق النسل وانشعاب القبائل وانبثاث الخلق الى وفاة موسى عليه السلام في خمسة أسفار وأدرج فيها ما أوحي الى موسى من ربه وما شرع موسى (او يوشع كما يشهد به بعض عبارات السفر)(1( لانتظام أحوال شعبه.
فإذا علم بالاجمال أن قصص نوح وأمثاله لم تذكر في تواريخ الملل الكبيرة العتيقة، مثل الأمم الصينية والفارسية والهندية، ممن لا يهان بسعة معارفهم وقدم تمدنهم وتقادم عهدهم ووسعة ممالكهم وانتشار مآثرهم، ولا يعلم بالتحقيق مصنف الأسفار الخمس العبرية. وعلم أيضاً أن سيدنا النبي وسائر الأنبياء عليهم السلام كانوا لا يناقشون الناس في عقائدهم التاريخية، وكانوا يتكلمون معهم بما عندهـــم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي اصحاح 24 من سفر يوشع.
من المعارف الموروثة القومية. علم بالضرورة أنه لم يبق مجال لأهل الاجتهاد والتحقيق أن يبتّوا رأياً في هذه المسائل من جهة العلم. فإذا سدًّ طريق الاجتهاد فما بقي ثمة إلا وجهة الدين والاذعان التعبدي لظواهر ما ورد من الأنبياء والمرسلين.
ومن المدهشات التي تحير العالم الفاضل، وتجلب نظر الفطن العاقل، وتسيء الظن بما كانوا يحسبونه من المسلميات وتوجب على المؤرخ غاية الدقة في الكشف والاستقصاء حتى على ما يعدونه من البديهيات. إنه الى يومنا هذا ما وجدوا في الآثار العتيقة المصرية ما يدل أدنى دلالة على كون بني اسرائيل في مصر وقيام موسى عليه السلام بينهم بالرسالة، وطلبهم النجاة من ظلم الفراعنة بزعامته، وهجرتهم الى بر الشام تحت رايته، وهم قوم حربيون يعد المحاربون منهم ثمانمائة ألف أو يزيدون، فاتبعهم فرعون بجنوده، وغرقوا في البحر بكفرانه وجحوده. مع أن الآثار العتيقة المصرية كما يعرفه أهل العلم اكتشفت بها في هذا القرن من التورايخ الصحيحة ما أخنى عليه الدهر وأخفاه مدة مديدة تحت حجاب كثيف من الستر حتى محي ذكرها من الكتب والأسفار وتتابعت عليها القرون والأدوار الى ان أحياها الله في هذا العصر المجيد الذي هو عصر ظهور الأسرار وطلوع نور الأنوار، وزوال الظلمات المتراكمة الحائلة دون الأنظار. فقام جماعة من أفاضل الغربيين واكتشفوا من تلك الآثار العتيقة حقيقة تاريخ المصريين، فظهرت أسماء ملوكهم وفراعنتهم وأفعالهم وأحوالهم وعدة بيوتهم وعائلاتهم وديانتهم وعاداتهم وآلهتهم ومعبوداتهم. فأحييت تلك الآثار للفراعنة ذكراً صريحاً ورتبت لدولهم ترتيباً صحيحاً ومهدت للتاريخ دوراً جديداً وأسست للعلم أساساً سديداً. وكل هذه الآثار العتيقة ورمم الفراعنة وجثثهم المحنطة موجودة ومحفوظة في متحف مصر وبقايا هياكلها العظيمة تشد عليها الرحال ويقصدها أفاضل الرجال من أقطار أوربا وأمريكا لكشف المعارف التاريخية وزيارة المعالم المصرية، وما وجدوا بعد ما يصحح أخبار توراة من قصص موسى وهارون ويوشع وأحوالهم فكيف من تقدمهم من آدم وشيت ونوح وأمثالهم، فتحير المعتقدون بتاريخ التوراة في كيفية تدارك هذا الخلل الكبير، وهالهم اختلال أساس هذا التاريخ الخطير، إذ لا يعقل أن المصريين الذين رسموا على الأحجار جميع وقائعهم الكلية والجزئية ونقشوا في الصخور كل ما حدث في مصر من الحوادث الملكية والدينية، كيف أعرضوا عن ذكر تلك الأمور الهائلة الجسيمة من قيام موسى عليه السلام وإظهاره الآيات العجيبة وغرق فرعون وجنوده الجرارة الكثيرة، فمنهم من هو واضع كف الحيرة تحت ذقنه يتفكر بعد في التطبيق والتدقيق لعله يجد طريقاً يأول الى التصحيح والتوفيق. والله تعالى أعلم بما ينتهي اليه أمر المكتشفين والمنتظرين، وفي ذلك كفاية للمتبصرين.(ابو الفضائل- كتاب الدرر البهية)
No comments:
Post a Comment